الإسلام شرف في الوسيلة والهدف !!
لحضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الغزالي
المستشار بوزارة الأوقاف
يروي المؤرخون أن عبدالله بن أبي السرح ارتد بعد إيمان ، والتحق بمشركي مكة يزعم لهم أنه كان يفتعل الوحي مع محمد، وأن القرآن كتاب من عند الناس لا من عند الله!!!
وظاهر أن الرجل بهذه الفرية المهينة يسيء إلى الإسلام وأهله، ويشن على الله ورسوله حربًا آثمة، فلا جرم أن يحكم النبي عليه بالموت، وأن يهدر دمه عام الفتح مع أمثاله من المجرمين الذين لا يستحقون شرف الحياة في مجتمع نقي، وشاع نبأ هذا الحكم الواجب النفاذ، والذي لا يجوز أن يتراجع أمامه أحد.
إلا أن عثمان بن عفان – وكان أخًا لعبد الله من الرضاع – طمع في استصدار عفو من رسول الله عن قريبه المخطئ، فاقتاده إلى مجلس النبي يعتذر ويستأمن.
وسكت الرسول وهو يتذكر عظم ما اقترف هذا الكذوب في جنب الله (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا) ولم يجب عثمان إلى ما طلب من عفو عنه.
بَيْدَ أن عثمان عاود الرجاء حتى استحيا الرسول من رده خائبًا فعفا عن عبدالله وأمنه!!
وبدا من حاله ومقاله – صلى الله عليه وسلم – أن الرجل كان أهلا للعقوبة جديرًا بالقتل فقال له بعض أصحابه : هلا أومأت إلينا بعينك فعاجلناه بالقصاص؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة النبيلة: (ما كان لنبي أن تكون لها خائنة الأعين)!!
إن أصحاب النفوس الشريفة لا يحسنون أعمال الظلام ولا تتفاوت مسالكهم الخفية والجلية، ولا يلجأون إلى الغمز بالعين تسترًا على نية يخشون اكتشافها، أو يؤثرون كتمانها.
والدعاة إلى الله ليس أمامهم إلا نهج واحد: المصارحة بالحق، والمسالمة فيه، أو المخاصمة عليه.
وهم في هذا المنهج علماء يدرسون الحقائق الدينية والاجتماعية، أو السماوية والأرضية فلا يقصرون في بيانها، ولا يجاملون في تقريرها، ولا يخفون بعضًا ويظهرون بعضا آخر كلا إنهم يكشفون كل ما لديهم دون مواربة أو محاذرة، وفي هذا يقول الله جل شأنه : (ودوا لو تدهن فيدهنون).
والمداهنة التي يودها المشركون لون من الهدنة على حساب المبادئ المقررة، والمثل المنشودة، وهي هدنة تقوم على تملق المجتمع، أو الحرص على المنافع الخاصة، أو النكوص عن التضحيات اللازمة.
والأنبياء ومن على قدمهم من الدعاة يرفضون رفضًا حاسمًا هذا المسلك لقريب من النفاق والأثرة. إنهم صور حية لرسالاتهم، وحراس منتصبون للدفاع عنها والحياة بها أو الموت دونها، لا يميلون عنها يمنة أو يسرة قيد أنملة.
وتأمل توجيهات القرآن الكريم لسيد الدعاة (ادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون).
وقوله جل شأنه : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم).
وقوله : (إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم).
إن للطبائع الملتوية أسلوبًا قد تنجح به في ميادين شتى، فإذا تعلق الأمر بالعقائد والفضائل والمبادئ لم تصب من النجاح سهمًا، ذلك أن طريق أصحاب المثل غير طريق أصحاب المصالح، وسياسة الدعوات القائمة على الشرف والمرتبطة بالسماء غير سياسة التطلع والصد.
ويجب أن نوقن بأن أهل الإيمان يرفضون السير بعيدًا عن منطق الأمر والنهي والحلال والحرام، وما يجوز وما لا يجوز أما الزعم بأن الغاية تبرر الوسيلة فهذا ما لا يقبلون.
عن ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى قبيلة بني عامر بن صعصعة وعرض عليهم نفسه – وذلك بعدما كذبه قومه وتجهمت الأرض له ، فقال رجل منهم: والله لو أخذنا هذا الفتى من قريش لأكلتنا العرب! ثم جاء النبي فقال له: أرأيت إن تابعناك علىأمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟
قال صلى الله عليه وسلم: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء! قال: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بدينك!!
إن هؤلاء قوم ينشدون الرياسة من وراء الإيمان الذي يساومونه عليه، فهم لا يطلبون وجه الله ولا يفكرون في ثواب الآخرة ! والذين يصلون لغرض ويصومون لغرض ليسوا أصحاب صلاة ولا صيام! والذي يشترطون على الله لكي يؤمنوا به أن يأخذوا كذا وكذا ليسوا أهل إيمان!
ومن هنا انصرف نبي الله عنهم ؛ لأنه لا يعرف سياسة (خذ وهات) ولا يقود البشر عن طريق شهواتهم القريبة أو البعيدة، إنما يقودهم عن طريق اليقين المحض والإخلاص المبرأ والعمل الصالح المبرور، والمسلم امرؤ يحيا وفق تعاليم دين، وهو ينتصر لدينه بالطرق التي يقرها وحدها، وينأى عما عدها.
إن طبيعة الطير أن تسبح في الجو وأن تطوي المساحات صافة أجنحتها وطبيعة الثعبان أن يزحف على الثرى وتتدافع أجزاؤه فوق التراب كي ينتقل من مكان إلى مكان.
والإيمان نقلة هائلة من طبع لطبع، ومن سلوك لسلوك، وهو يكلف صاحبه أن يترفع لا أن يسف، وأن يشق طريقه محلقا في الجو لا مخلدًا إلى الأرض.
والمشكلة أن