ثالثا: الإسلام دين عقل وعلم
للأستاذ: عبد الكريم الخطيب
– 4-
يقول الشيخ رشيد رضا – تلميذ الإمام: (سار الدين – الإسلام بتكميل الفطرة البشرية على منهاج التدرج في الارتقاء، كما هى السنة العامة في جميع شئون الأحياء، حتى أكمل الله برسالة محمد خاتم النبيين والمرسلين الإسلام، الذي بلغ بالإنسان مرتبة الاستقلال التام، وبين كتابه أنه دين الفطرة للناس من جميع الشعوب والأجناس، الموافق لهم في كل مكان. المنطبق على مصالحهم في كل زمان.. فهو للقبائل الساذجة المربي الرحيم. وهو للشعوب الراقية الإمام الحكيم.. كلما ساروا في العلوم والمدنية شوطا رأوه المجلي في ميدان السبق.. “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” [فصلت: 53].
أقام هذا الدين سلف المسلمين المتبعون، وخذله خلفهم المبتدعون، حتى صاروا حجة عليه عند أكثر العالمين، إذ زينت لهم التقاليد والعادات أن يجعلوه حجابا دون العلوم والفنون والصناعات، وأن يتفرقوا فيه مذاهب وشيعا، وينقصوا منه سننا ويزيدوا عليه بدعا) (مقدمة الشيخ رشيد لرسالة التوحيد).
تلك هى حال المسلمين اليوم، يقف فيها الإسلام موقفا حرجا، لم يقفه في تاريخه الطويل، حيث ارتقى الناس – غير المسلمين – بالعقل والعلم، إلى حيث أقاموا صروح الحضارة والمدنية، وملكوا زمام الحياة على حين زهد المسلمون في العقل والعلم، ورضوا بأن يكون عالة على أمم الغرب، يجرون لاهثين وراءهم بلا عقل ولا علم، فكانت الهاوية التي تردى فيها الكثير، ممن فتنوا بالغرب وحضارته.. أما من لم يفتن بهذه الحضارة، فقد ظل في مكانه متبلدا لا يحس ولا يتحرك.
إن العقل والعلم، هما النقدان المتعامل بهما في دنيا الناس اليوم.
وإذا كان الغرب قد تحرر، وحرر العقل والعلم معه من سلطان الدين، الأمر الذي تضخم فيه العقل والعلم، وضمر فيه القلب والروح وجفت فيه العاطفة والوجدان، وتحول الإنسان إلى آلة جهنمية تقذف بالنار، وترمي بالشرر، فتحرق، وتحرق ما حولها.. إذا كان الغرب قد سلك هذا المسلك، ووقف من الدين هذا الموقف، ثائرا على سدنة الدين وكهنته الذين جعلوا الدين لأيديهم، وحجبوا أهله عن أن ينظروا فيه إلا بعيون السدنة عليه، وأصحاب الكلمة العليا فيه – فإن الإسلام قد أطلق عقل الإنسان، وحرر قلبه وضميره، وجعل إليه وحده الحق في أن يعقل دينه، وأن ينظر في كتاب الله وسنة رسول الله نظر متدبر، وفاحص ودارس، وما ذلك إلا ثقة بأن هذا الدين لا يصادم العقل السليم ولا يخرج عن منطقه المجانب للهوى.. وأنه كلما ازداد العقل علما ومعرفة، وكلما فتح بالعلم والمعرفة أبوابا يطلع منها على أسرار الوجود، ويخرج منها بمفتاح العلم والمعرفة ما في خبء الأرض من قوى يسخرها ليده – كان ذلك نورا يكشف به ما في الإسلام من حقائق عليا، في كل ما يعالج من شئون الحياة، حيث يلتقى نور العلم والمعرفة بنور سماوي علوي منزل من عند الله، تثبت به قواعد العلم، وتتسع به دائرة المعرفة “نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء” [النور: 35].
ولا ننكر أن فينا من حصلوا قدرا كبيرا من العلم، في الطب والهندسة والكيمياء، وغيرها من علوم الغرب، حتى كادت تتساوى رءوسهم برءوسهم.. ولكن هؤلاء العلماء – على قلتهم – قد عزلوا أنفسهم عن علوم الدين، وعدوا ذلك عدوانا منهم على أهل الإختصاص – فكما لا يدخل عالم الطب على عالم الهندسة، ولا عالم الهندسة على عالم الكيمياء، كذلك لا يدخل أحد من هؤلاء على عالم الدين، ولا يشاركه النظر في كتاب الله وسنة رسول الله، فهذا – كما خيل له – دخول فيما لا يعنيه!!
أقليس هذا ما يفعله علماء الغرب الذين تلقى عنهم وتتلمذ عليهم؟.
إن للدين هناك رجاله، وهو منطقة حرام، لا يدخلها إلا رجال الدين ومن تزيا بزي الدين، ووقف في مكانه بين علماء الدين.
وما درى هؤلاء العلماء منا أنه ليس في الإسلام علماء دين، وعلماء دنيا، وليس في الإسلام سلطة دينية، وسلطة مدنية..
الإسلام – أيها العلماء العلمانيون – حياة متكاملة، تجتمع فيها الدنيا والدين، كما يجتمع الجسد والروح، فكما أنه في عالم البشر لا جسد بلا روح، ولا روح بلا جسد، كذلك لا دنيا بلا دين، ولا دين من غير دنيا، فمن لا دنيا له لا دين له، ومن لا دين له لا دنيا له..
نكرر هذا القول مرة ومرة ومرات. حتى تصحح هذه الأفهام الخاطئة عن الإسلام، وحتى لا يحرم هذا الجمع الغفير من العلمانيين عندنا من الدخول إلى ساحة الدين، وأن يكونوا علماء فيه، فبهم – وبهم وحدهم – تعرف حقائق الإسلام، وتتجلى آياته على العالمين.. وعليهم – وعليهم وحدهم – أن يزيحوا عن ساحة الدين ما تراكم عليها من مخلفات القرون من أوهام وخرافات، دفع بها إلى ساحته النقية المشرقة، المتجرون بالدين، المفتون به عن جهل غبي، أو هوى متسلط.
إن الإسلام يهتف اليوم بكل عالم من أبنائه، وسع عقله من علوم العصر ما بلغه العلم في أبعد أشواطه، أن يقبل على الإسلام دارسا، ب