أحسن ما قرأت :
مقتطفات بقلم إمامنا الراحل الأستاذ الجليل
الشيخ محمد حامد الفقى ( رحمه اللَّه )
الإسراء والمعراج
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
سورة بنى إسرائيل . وتسمى ( سورة الإسراء )
التسبيح : تنذيه اللَّه جل ثناؤه من كل سوء
وأصل ( التسبيح ) التنزيه ، والتقديس ، والتبرئة من النقائص . معنى ( سبحان اللَّه ) نزيه اللَّه .
وقيل : قوله ( سبحانك ) أى أنزهك يارب من كل سوء أبرئك .
وأصل ( عبد ) المعبد المذلل اغيره ، إما بالمك والقهر . والكل – بهذا المعنى – عبيد اللَّه لأنه هو الذي خلقهم ، وهو الذي يدبر كل أمرهم .
وإما أن يكون العبد هو الذي أذل نفسه وعبدها ، فيكون جمعه عبادًا ، فهو إما عبد للطاغوت ، وهو المشرك الوثنى الذي يعبد الموتى ، ويتخذ الأنداد من دون اللَّه ، وهو في الواقع عبد الشيطان .
والعبد الكريم الناصح لنفسه : هو الذي عرف لنفسه قدرها ، فعرف لمن يذلها ويخضعها ، فعبد لله وحده ، المؤمنون في ذلك درجات . أعلاهم المرسلون . وأعلاهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن ثم كان لقب ( عبد اللَّه ) أحب لقب إلى قلبه .
وكان بعبوديته الشاكرة الصابرة – يزيد ربه معرفة به ، ونور بصيرة ، وهدى وحكمة ورشدًا ، ورحمة وشفقة بالناس ، فيزداد عبودية ، وحبًا لربه ، ورضى به ربًا ، ورضى بسنته وتدبره له في كل شأن ، وشكرًا لعطائه وفضله ، وفهما لسننه ، واستقامة على ما تقتضيه حتى كان هو العبد المعبد قلببه حقيقة لربه ، فكان الذي يقدر وحده من دون أهل الأرض جميعًا على حمل الأماانة العظمى عن ربه سبحانه ، ليخرج بها الناس من الظلمات إلى النور ، إلى هدى الرسالة الرشيدة ، وعلمها المنزل من الحكيم الخبير ، شفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة تطمئن بها القلوب إلى ربها ، وفي إخلاص العبادة له ، والاستقامة على سننه الكونية وشرائعه التي تهدى المتبع لها إلى أقوم سبيل وأهداها في بلوغه كل غاية حميدة ، يوفر اللَّه له بها أسباب السعادة ، والعيش الرغد الهنئ ، والحياة الطيبة في الأولى والأخرى .
وكانت قريش قد بالغت في أذى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، بعد موت عمه أبى طالب ، وخديجة الصديقة أم المؤمنين رضى اللَّه عنها وأرضاها ، حتى خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد ضاقت عليه مكة – إلى الطائف يعرض على سادة ثقيف وأشرافهم ، أن يؤوه وينصروه ، حتى يبلغ رسالة ربه ، ويعدهم على ذلك فلاح الدنيا والآخرة . فردوه أشنع رد وأقبحه ، وأغروا به سفهاءهم يرجمونه بالحجارة ، وما زالوا يطاردونه حتى كلوا زأعيوا ، فعادوا أدراجهم ، فجلس وكان به r من الهم والحزن ما يصوره دعاؤه الذي ناجى به ربه ، إذ يقول (( اللهم إنى أشكوا ضعف قوتى ، وقلة حيلتى ، وهوانى على الناس . يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربى ، إلى من تكلنى ؟ إلى قريب يتجهمنى – وفي رواية : إلى يعيد ، أم عدو ملكته أمرى ؟ إن لم يكن بك سخط فلا أبالى ؛ ولكن عافيتك هى أوسع لى ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة : من أن ينزل بى غضبك ، أو يحل سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك )) .
وكان جلوسه أمام بستان عتبة وشيبة ابنى ربيعة ، ألد أعدائه وأعنف المشركين في أذاه بمكة . فلما رأياه كذلك رقق اللَّه قلباهما ، وأرسلا إليه صلى الله عليه وسلم غلامهما النصرانى النصرانى عداس ، يقطف من عنب ، فحين مد رسول اللَّه يده يتناوله سمى اللَّه ، فقال له عداس : واللَّه إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد . فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : ومن أهل أى البلاد أنت يا عداس ؟ فقال : من نينوى ، فقال له من قرية الرجل فقال له : الصالح يونس بن متى ؟ فقال له عداس ، في لهفة ودهشة : وما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال له : ذاك أخى . كان نبى وأنا نبى . فأكب عداس يقبل رأس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويديه وقدميه ؟ احذره أن يفتنك عن دينك . فدينك خير من دينه . فقال : يا سيدى ما في الأرض خير من هذا . لقد أخبرنى بأمر ما يعلمه إلا نبى .
ثم بعث اللَّه إليه – إستجابة لشكاته ودعائه – جبريل ، ومعه ملك الجبال . فقال له ملك الجبال : مرنى فيهم بما شئت ، مرنى أن أطبق عليهم الأخشبين – الجبلين اللذين بينهما وادى مكة والطائف – فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (( دعهم ، لعل اللَّه أن يخرج من أصلابهم من يعبده )) .
ثم عاد إلى مكة ، وفي طريقه صرف إليه نفرًا من الجن يستمعون القرآن – وقد قص اللَّه نبأهم في سورتى الأحقاف ، والجن – ولو أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقتلوا أهل مكة لقتلوهم الساعة . ولكنه صلى الله عليه وسلم صرفهم لينذروا قومهم .