استدراك
على مقال الحج في الكتاب والسنة
بقلم الشيخ : محمد سليمان محمد عثمان
كتب بعض الإخوة الأفاضل عن الحج في العدد الماضي فأحسن الكتابة والقول . إذ يقول : الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام .
وأنه فرض عين مرة في العمر على من استطاع إليه سبيلاً … إلخ .
ثم أورد الدلائل على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع .. وإلى هنا كلام طيب . ونقدر للأخ الكريم كلمته القيمة .. ونسأل الله أن يتقبلها منه ، ويؤجره عليها .. وأن ينفعنا بما نعلم وما نقول ، وأن يجعله حجة لنا لا علينا .. يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
وهذا القدر أيضًا من الكلام لا يختلف فيه اثنان من المسلمين .
غير أننا نلاحظ أن الأخ أوجب على الحاج أن يزور الروضة الشريفة التي فيها قبر رسول اللَّه ( .. وهذا الوجوب لم يقل به أحد من الأئمة السالفين من أصحاب رسول اللَّه ( والذين اتبعوهم بإحسان ، وهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا ، وأعمقها علمًا ، وأقلها تكلفًا ، وأحسنها طريقة وهديًا ، وهم القدوة الصالحة لنا في ديننا .. وإنما قال ذلك بعض المتأخرين من مقلدة المذاهب ، الذين جعلوا دينهم غرضًا للخصومات والجدل .
لا شك أن زيارة مسجد رسول الله ( من نوافل الخير التي يتقرب بها المؤمن إلى الله تعالى . والصلاة فيه تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام . وهو أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها كما في الحديث الصحيح . فيندب للإنسان أن يأتيه إذا وجد سعة من وقته وماله ، في أي وقت من الأوقات غير متقيد في ذلك بوقت الحج أو وقت آخر .. أما وجوب الذهاب إلى المدينة في وقت الحج فلم يقل به إمام من الأئمة السابقين . وكلمة (( واجبة )) تلقى في روع أكثر الناس أن زيارة المسجد النبوي فرض عين يتحتم على كل حاج أن يفعله ، وإلا كان حجه ناقصًا أو مردودًا … وهذه هي الصورة المرسومة في أذهان العوام وأشباههم في بلادنا ، يخلط أحدهم بين الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام وبين زيارة المدينة التي هي من الأعمال المستحبة فقط ، فلا يعرف عن الحج شيئًا إلا أنه وقع يده على شباك النبي ( .
هب أن رجلاً من ذوي الدخل المحدود مثلاً تجمع لديه من المال ما يحج به فقط . واستطاع السبيل إلى ذلك ، أفنقول له أخر الحج المفروض عليك إلى أن تجد لك سعة تمكنك من زيارة المدينة ؟ أم نقول له عجل بتأدية الفريضة التي أوجبها الله عليك ؟ لا شك أن التعجيل بتأدية هذا الفرض الذي هو أحد أركان الإسلام هو أولى ، من الاشتغال بأمر مندوب إليه … وهذا القدر أيضًا متفق عليه بين أئمة الإسلام ” واللَّه لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة ” .
وهذه الفضيلة لزائر المدينة ، إنما تثبت له إذا سافر بقصد الصلاة في مسجد رسول الله ( بالقصد الأول ، ثم الذهاب بعد ذلك إلى قبر رسول الله ( للسلام عليه وعلى صاحبيه ، تبعًا لهذا القصد بحكم وجوده هناك .. أما شد الرحال لمجرد زيارة القبر دون أن يكون قصده الأول هو مسجد رسول الله ( والصلاة فيه فهذا ما لم يفعله أحد من سلف هذه الأمة على عهد صحابة رسول الله ( وتابعيهم بإحسان ، بل قد كره كثير من الأئمة شد الرحال إلى مجرد القبر كالإمام أبي محمد الجويني والد إمام الحرمين ، وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام مالك رحمهم الله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : الذي تضافرت به النقول عن السلف قاطبة وأطبقت عليه الأمة قولاً وعملاً هو السفر إلى مسجده المجاور لقبره ، والقيام بما أمر الله به من حقوقه في مسجده كما يقام بذلك في غير مسجده ، لكن مسجده أفضل المساجد بعد المسجد الحرام عند الجمهور ، وقيل : إنه أفضل مطلقًا كما نقل عن مالك وغيره ، ولم يتطابق السلف والخلف على إطلاق قبره ولا ورد بذلك حديث صحيح ، ولا نقل معروف عن أحد من الصحابة ولا كان الصحابة المقيمون بالمدينة من المهاجرين والأنصار إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه يجيئون إلى القبر ويقفون عنده . وقد ذكر القاضي عياض عن مالك أنه كره أن يقال : زرنا قبر النبي ( . وذكر عن مالك أيضًا أنه ليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر ، وإنما ذلك للغرباء .. وقال مالك في المبسوط أيضًا : ولا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي ( ويدعو له ولأبي بكر وعمر ، قيل له : فإن ناسًا من أهل المدينة لا قدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك مرة أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة ، فقال : لم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ولم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها . اهـ .
هذا ما صح عن مالك أنه لم يبلغه عن أحد من الصحابة أنهم كانوا يفعلون ما يفعله المتأخرون . فقد قال رسول الله ( : ” اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد ” . وقال : ” اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ” . وقال : ” لا تتخذوا قبري عيدًا ” إلى غير ذل