ابن تيمية سلفي وإن رغمت أنوف
بقلم: سليمان رشاد محمد
( 4 )
تحدثنا في المقال السابق في الرد على كتاب ( ابن تيمية ليس سلفيًا ) لمؤلفه الشيخ منصور محمد محمد عويس، وما زعم فيه في الفصلين الثالث والرابع من الباب الثاني أن ابن تيمية قال بقيام الحوادث بذاته سبحانه وتعالى، وبينا وجه الخطأ في فهم المؤلف لكلام الإمام، وقلنا إن المؤلف بصوفيته وعقيدته المؤولة المعطلة لصفات الله لا يمكن أن يدرك تمامًا ما قصد إليه الإمام ابن تيمية. وفي هذا المقال نتابع الرد عليه فنقول:
عنون المؤلف الفصل الخامس بقوله: ( ابن تيمية يزعم بأن كلام الله تعالى بحرف وصوت )، وفي الفصل السادس يرد على الإمام، وقد ظن أن الإمام قد أخطأ فيما ذهب إليه، والواقع هو المخطئ بل هو الخاطئ، وكل ما أورده فإنما هي ردود واهية، ولا يمكن أن يطمس ما أورده الإمام من الأدلة القرآنية والحديثية الظاهرة الواضحة البينة، أما ما نقله عن الكوثري والسبكي والباقلاني وغيرهم من المعتزلة المعطلة المؤولة للأسماء والصفات فلا يجديه شيئًا.
يقول المؤلف: لا تعجب من أن ابن تيمية قد زعم أن كلام اللَّه بصوت وحرف، فإنه فيما تقدم قد زعم قيام الحوادث بذات الله تعالى، فعلى هذا فإن زعمه أن كلام اللَّه بصوت وحرف مبني على زعمه: قيام الحوادث بذاته تعالى، وكلا الزعمين باطل.
هذا ما قاله المؤلف، ولقد سبق أن بينا خطأ المؤلف في فهم كلام الإمام ابن تيمية في تأييده للقائلين بقيام الحوادث بالله تعالى، وأن ابن تيمية يقصد بالحوادث صفات الكمال القائمة به سبحانه، وهنا يتأكد في قضية كلام الله تعالى ما قلنا ما كان يرمي إليه الإمام ابن تيمية، فالتكلم من صفات الكمال ولا شك، وفي ربط المؤلف بين ما ذهب إليه الإمام من قيام الحوادث به سبحانه وبين كلامه سبحانه بصوت وحرف ما يدل على أنه قد فهم ما يذهب إليه الإمام، أما قوله: إن كلا الزعمين باطل فهو يتفق مع جهميته وإنكاره لصفات الله.
وقديمًا أثبت الإمام عبد العزيز الكناني المكي في مناظرة له مع بشر المريسي وجهم بن صفوان قيام الصفات بالله سبحانه وتعالى، كالعلم والكلام، ودحض قولهما بنفي الصفات عنه سبحانه وتعالى، وأبطل مذهبهما في ذلك، ومع ظهور الحق والحجة من كتاب الله وسنة نبيه صلى اللَّه عليه وسلم، ومن العقل والمنطق مع الإمام عبدالعزيز فقد ظل المأمون ومن بعده من الأمراء العباسيين سادرين في غيهم وضلالهم في نفي قيام الصفات به سبحانه، وكان في ذلك محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من العلماء الذين تصدوا لهذه البدع والضلالات.
ونعود إلى مؤلف كتاب ( ابن تيمية ليس سلفيًا ) ونسأله: كيف سمع موسى عليه السلام كلام الله سبحانه وتعالى، وكان الحديث الذي بينهما كما جاء في القرآن إذا لم يكن بحرف وصوت؟ وما هذه الصيغة المؤكدة للكلام: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} النساء: 164 هكذا بالمفعول المطلق إذا لم يكن الكلام كلامًا حقيقيًا بحرف وصوت؟ ألم يقل الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} الشورى: 51، وقد جاء في تفسير هذه الآية في كتاب ( المنتخب: في تفسير القرآن الكريم ) الذي وضعه نخبة من العلماء بإشراف وزارة الأوقاف، ما يأتي: ( وما صح لأحد من البشر أن يكلمه الله إلا وحيًا بالإلقاء في القلب إلهامًا أو منامًا، أو بإسماع الكلام الإلهي دون أن يرى السامع من يكلمه، أو بإرسال ملك يرى صورته ويسمع صوته، ليوحي بإذنه ما يشاء ). وقال الإمام الصفوي في تفسيره ( جامع البيان ) في تفسير هذه الآية: ( وما كان ) ما صح ( لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا )، وهو الإلهام- كما ألهمت أم موسى أن تقذفه في البحر- أو المنام- كما رأى إبراهيم في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل- ( أو من وراء حجاب ) يسمع كلامه ولا يراه كما وقع لموسى عليه السلام. وقال الأستاذ عبد الكريم الخطيب في تفسيره ( التفسير القرآني للقرآن ) في هذه الآية: (من وراء حجاب- أي من غير أن يرى الرسول ذات المتكلم سبحانه وتعالى ). وقال الإمام ابن كثير في تفسيره مثل ذلك. وهكذا تضافرت أقوالهم في إثبات الكلام لله سبحانه وتعالى، وإثبات السماع مع نفي الرؤية.
وكلمة ( الكلام ) يقصد بها إما الكلام الذي بصوت وحرف، وأما الكلام الذي يرسل في كتاب أو رسالة شفهية، فمن الأول قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}، وقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} البقرة: 253 وغيرهما. ومن الثاني قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ث