أولئك الرجال حقـًا ..رجال المساجد
الحلقة الثانية
بقلم الشيخ مجدي قاسم
قال تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ @ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًاتَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ @ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ النور : 36- 38 ] .
قوله تعالى : { ويُذكر فيها اسْمُهُ } أي : اسم اللَّه ، وقال ابن عباس : يعني يُتلى كتابه ، وقوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا } قال ابن عباس : كل تسبيح في القرآن هو الصلاة . { بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } أي : في أوقات الصباح وآخر النهار . وقوله : { يُسَبِّح } قُرِئت بكسر الباء وبفتحها ؛ فمن قرأها بالكسر جعلها فعلاً وفاعله : { رجالٌ } ، وحينئذ لا يحسن الوقف إلا على الفاعل ؛ لأنه تمام الكلام ، ومن قرأها بالفتح جعلها فعلاً مبنيـًّا للمجهول لم يُسم فاعلُه ، وأصبح الوقف على قوله : { والآصال } وقفـًا تامـًّا ، وابتدأ بقوله : { رجالٌ } ، وكأنه مفسر للفاعل المحذوف .
وقوله تعالى : { رجالٌ } فيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية التي بها صاروا عمارًا للمساجد التي هي بيوت اللَّه في أرضه ومواطن عبادته وشكره وتوحيده وتنزيهه .
وقوله تعالى : { رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }[ المنافقون : 9 ] ، وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } [ الجمعة : 9 ] ، والآية معناها : لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذّ بيعها وربحها عن أن يأتوا الصلاة في أوقاتها في جماعة ، وأن يذكروا ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم ، والذي يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم ؛ لأن ما عندهم ينفد وما عند اللَّه باق .
قال مطر الورّاق : كانوا يبيعون ويشترون ، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانُه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة(1) .
كان إبراهيم بن ميمون المروزي – ومهنته الصياغة وطرق الذهب والفضة – كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردّها !
أَحِنُّ اشتياقـًا للمساجد لا إلى قصورٍ وفُرشٍ بالطرازِ موشحُ
كان السلف – رحمهم اللَّه وحشرنا في زمرتهم – أكثر الناس تعظيمـًا لأوامر اللَّه وإتيانـًا لفرائض اللَّه ، بل كانوا أعظم الناس اشتياقـًا للقاء اللَّه ومناجاته والوقوف بين يديه ، فكانوا يلبّون سراعـًا نداء الصلاة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إذا سمعتَ النداء فأجب داعي اللَّه ))(2) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( من سمع النداء فلم يأته ، فلا صلاة له إلا من عُذر ))(3). وقال ابن عباس ، رضي اللَّه عنهما : ( من سمع : حيّ على الفلاح فلم يُجب ، فقد ترك سُنة محمدٍ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم )(4) .
وقال سفيان بن عيينة : ( لا تكن مثل عبد السوء لا يأتي حتى يُدعى ، ائتِ الصلاة قبل النداء(5) )(6) . وقال أيضـًا : ( إن من توقير الصلاة أن تأتي قبل الإقامة )(7) .
فكانوا – رحمهم اللَّه – يأتون الصلاة في المساجد وهم مرضى أصحاب أعذار ، فكان الربيع بن خُثيم بعد ما سقط شِقُّه يُهادى بين رجلين إلى مسجد قومه ، يقولون : يا أبا يزيد ، لقد رُخِّص لك ، لو صليتَ في بيتك ! فيقول : ( إنه كما تقولون ، ولكني سمعتُه يُنادي : حيّ على الفلاح ، فمن سمعه منكم ينادي : حيّ على الفلاح ، فليجبْه ولو زحفـًا ، ولو حبوًا )(8) .
وسمع عامرُ بن عبد اللَّه المؤذنَ وهو يجود بنفسه ، ومنزله قريب من المسجد ، قال : ( خذوا بيدي ) ، فقيل له : إنك عليل ، فقال : ( أسمع داعي اللَّه فلا أجيبه ؟! ) فأخذوا بيده ، فدخل في صلاة المغرب ، فركع مع الإمام ركعة ، ثم مات ، رحمه اللَّه(9)(10) .
وكان أبو عبد اللَّه محمد بن حفيف الشيرازي به وجع الخاصرة ، فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة ، فكان إذا نُودي للصلاة يُحمل على ظهر رجل ، فقيل له : لو خفّفت على نفسك ؟ قال : ( إذا سمعتم : حي على الصلاة ، ولم تروني في الصف ، فاطلبوني في المقبرة )(11) .
وقيل لسعيد بن المسيب : إن طارقـًا يريد قتلك ، فتغيّبْ ، فقال : ( أبحيث لا يقدر اللَّه عليَّ ؟ ) فقيل له : اجلس في بيتك ، فقال : ( أسمع : حيّ على الفلاح ، ولا أجيب ؟! )(12) .
وكان أبو عبد الرحمن السلمي يُحمل وهو مريض إلى المسجد ، بل كان يأمرهم أن يحم