أصل التصوف وحقيقته
بقلم: الدكتور إبراهيم إبراهيم هلال
أود أن أبين أولاً أن التصوف في أصله بعيد عن الدين الإسلامي، وأن الدين الإسلامي حين جاء لم يكن فيه هذا الاتجاه كما هو معروف لدى المثقفين ثقافة إسلامية.
وإنما جاء هذا التصوف إلى الدين الإسلامي وإلى مجتمع الإسلام في أواخر القرن الثاني الهجري، وذلك مع ترجمة العلوم والثقافة اليونانية وغيرها إلى اللغة العربية، واطلاع المسلمين على تلك الثقافات، فرأينا كلمة تصوف بدأت تظهر في هذا الوقت، فكان ظهورها قرينًا للفلسفة أو الحكمة اليونانية أو غيرها وظهورها في المجتمع الإسلامي.
وهذه الفلسفات القديمة لها تصوفها كما هو معروف، وانتقل المضمون مع اللفظ من بيئة أو بيئات أجنبية في ذلك الوقت، واختار المغرمون بهذا النوع من الفلسفة أو الحكمة هذا اللفظ ( صوفي ) أو تصوفي كما هو تقريبًا في اللسان اليوناني، سوفوس، أو سافيس، مع تحريف يسير، كما يحدث عادة في الترجمة حين ينقل اللفظ بحروفه، علمًا على ذلك النوع من الحكمة، أو الفلسفة وسمى تصوفًا، وسمى المتصوف صوفي أو متصوفًا أو صوفيًا. إلخ. فانتقل اللفظ مع المضمون إلى بيئتنا ثم مع مرور الزمن حسب علينا، وأدخل على ديننا.
وقد أحس العلماء والصوفية بعد ذلك غرابة هذا الاسم (صوفي)، وعدم وجوده في اللغة العربية لا لغة ولا كتابًا ولا سنة، فأخذوا يلصقونه أيضًا باللغة العربية بعد أن ألصقوا مضمونه بالتراث الإسلامي، ويشتقونه من معاني ومسميات دينية إسلامية، ولكنهم اختلفوا على أنفسهم، فلم يتفقوا في نسبته واشتقاقه على شيء، وكما هو معروف في كتبهم وواضح للعيان، فبعضهم نسبه إلى الصفاء، وبعضهم نسبه إلى الصفة التي كانت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم نسبه إلى الصف الأول، وبعضهم نسبه إلى الصوف، والكل متمسك بنسبته، مما يدل على أنه دخيل على اللغة العربية، وعلى الإسلام لعدم الثبات على نسبة واحدة مع دخول الخطأ اللغوي على معظم هذه النسب.
من جهة أخرى فإن مضمون التصوف في الوسط الإسلامي- وكما هو معروف حاليًا- هو مضمون التصوف قديمًا، وفي دوائر الفلسفة اليونانية، التي كانت تطلق عليه أيضًا لفظًا قريبًا من اللفظ المتقدم (سوفوس)، فكلمة (تيو صوفية) اليونانية كانت تطلق عندهم على مذهب روحي يعتنقه النساك والزهاد، وجاء في دائرة المعارف البريطانية أن (التيو صوفيين) كانوا معروفين في أزمان بعيدة، وكانوا يزهدون في الدنيا، وينقطعون إلى النسك والعبادة واستنزال الحكمة الإلهية على قلوبهم، وأن هذه الكلمة مركبة من لفظين تركيبًا مزاجيًا وهما لفظ: ” تيو ” ومعناه: إله، و”صوفيا” ومعناه: الحكمة، ونحن نعرف مدى تصور هؤلاء لعبادتهم، وإلى الإله أو الآلهة التي يعبدونها، وأنهم في تصوراتهم هذه كانوا أقرب إلى الوثنية بكثير جدًّا من التدين السماوي الحق، وسلوكهم إلى هذا التنسك الوثني، لا يقل وثنية عن الغاية ذاتها، فلا يجوز لنا أن نأتي بما ضل به هؤلاء في عبادتهم واجتهاداتهم حين كانوا بعيدين عن الرسل، وعن الأنبياء.
أما وقد هدانا اللَّه، بأنبيائنا ورسلنا السابقين وختم تلك الهداية بتلك الحلقة الخاتمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، فلا داعي لنا أن نسلك مسالك هؤلاء الذين لم يهدهم الله بما هدانا به.
ومن سلك من علمائنا السابقين أو الفلاسفة المسلمين هذه المسالك، فقد ندموا في نهاية حياتهم على ما فرط منهم.
فهذا ابن الفارض يقول في آخر حياته مبطلاً ما أثر عنه في الحب الإلهي، أو العشق الإلهي الذي سلك فيه مسلك (أفلوطين) الشيخ أو الفيلسوف اليوناني السكندري، وأتى بما أتى به هذا الأخير من وثنيات، يقول ابن الفارض نادمًا على ذلك مبطلاً له:
إن كان منزلتي في الحب عندكم
ما قد ظفرت فقد ضيعت أيامي
ويقول الإمام الغزالي مثل هذا القول في نهاية حياته ندمًا على ما وقع منه في المنقذ من الضلال والإحياء وغيرهما من عقائد صوفية، ويعلل ذلك بأنه إنما وقع فيما وقع فيه من التصوف لأنه كان مزجى البضاعة في الحديث، ثم عكف في آخر أيامه على قراءة البخاري ومسلم، وكذلك فعل ابن سينا وغيرهم كثيرون.
فهذه تجارب وقعت من هؤلاء عن حسن نية، لأنهم ظنوا أن في هذه الفلسفة اليونانية أو التصوف اليوناني، شفاء لما يعتمل في نفوسهم من مشكلات عقائدية أو فكرية دينية، وكانوا قد قرأوا هذه الفلسفات قبل أن يتعمقوا ويستفيضوا في دراسة القرآن الكريم والسنة النبوية، فنسوا أنفسهم مع هذه الفلسفات لغلبة الجانب النفسي والخيالي فيها على الجانب العقلي المنطقي، وأتوا يفسرون بها كثيرًا من مشكلاتهم، ثم يفسرون بها كثيرًا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي فصلت في هذه المشكلات نفسها، ولكن بالفصل العملي المعقول الذي يقرب الإنسان من الكون، ولا يبعده عنه، ويعرفه عليه ولا يجافي بينه وبينه، ثم عن هذا التعريف على الكون وعلى النفس يعرفه على الله الذي