{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّه كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 42- 62].
وقوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} كقوله تعالى: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 12]، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 30]، فـ {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّه مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} [الشورى: 47]، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّه إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات: 50، 51]، لا ملجأ ولا منجى من اللَّه إلا إلى اللَّه. {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى}، {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}، والضحك والبكاء ظاهرتان في الإنسان، وخالقهما هو اللَّه، وهما دلائل قدرة اللَّه، الإنسان هو الإنسان، أحيانًا تراه ضاحكًا، وأحيانًا تراه باكيًا، وربما ضحك وبكى في ساعة واحدة، وربما ضحك وبكى بسبب واحد، يضحك اليوم من شيء، ويبكي منه في الغد، وربما يضحك إنسان من أمر يبكي منه آخر، وهذا من قدرة اللَّه سبحانه، {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]، {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} من مصدر واحد، من أصل واحد، {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}، نطفة الرجل تصبّ في رحم المرأة فيكون منها الذكر والأنثى، فأي قدرة هذه التي تجعل من الشيء الواحد جنسين مختلفين ؟ {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 58، 59]، {أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36- 40] ؟! سبحانك بلى.
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49، 50]. وهذه الآية {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} كقوله تعالى عن عالم النبات: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]، {صُنْعَ اللَّه الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20، 21]، {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} أي عليه أن يعيدكم بعد الموت، كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29]، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27]، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّه يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20]. قال العلماء: وفي ذكر هذه الآية: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} عقب قوله سبحانه: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} إشارة إلى أن النشأة الأولى دليل على إمكان النشأة الثانية كما قال تعالى: {أَو َلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 77- 79]، وكما قال تعالى: {وَيَقُولُ الإنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَ لاَ يَذْكُرُ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 66، 67].
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أغنى الناس فرزقهم من ماله، وأقنى: أي جعل المال لهم فتنة، {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} نجم كان يُعبد، فقال اللَّه لعابديه: هذا الشِّعْرَى الذي تعبدونه خَلْقٌ من خلقي، وأنا ربه، فأنا المستحق للعبادة، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]، وهذه كلها بعض آيات اللَّه {فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53]، ثم ذكر ربنا بعض آياته في التاريخ وفي القرون والأجيال، فقال: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}. {فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8] ؟ {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} قرى قوم لوط {أَهْوَى} رُفعت إلى أعلى، ثم جُعل عاليها سافلها {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} من العذاب، {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}، فبأي نعمة من نعم اللَّه عليك تشك أيها الإنسان، {هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى}. هذا محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نذير من جملة النذر الأولى، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]، أنا لست أول من يدعي النبوة والرسالة، وإنما سبقني نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وغيرهم كثير، فما أنا إلا واحد من جملة المرسلين، أتيتكم بما أتى به كل رسول أمته، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّه وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 3]، فماذا تنكرون عليَّ ؟!
{أَزِفَتِ الآزِفَةُ} كقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، وقوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1]، {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّه كَاشِفَةٌ} إذا وقعت فلن يردها أحد.
{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} أفمن هذا الحديث الذي هو أحسن الحديث {تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ} استهزاءً وسخرية، {وَلاَ تَبْكُونَ} كما يبكي المؤمنون إذا قرءوا القرآن أو استمعوا له، كما قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً * قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 106- 109]، {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ}، السمود: الغناء، وكان المشركون إذا سمعوا آيات اللَّه تتلى عليهم قالوا: يا جارية غني لنا، وصفّقوا وصفّروا حتى لا يسمعوا القرآن.
والغناء – للأسف – من المصائب التي عمت، وفُتن بها كثير من المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه، والغناء والقرآن ضدّان، لا يجتمعان في قلب إلا أخرج أحدُهما الآخر، وللغناء أسماء منها: اللهو، واللغو، والزور، والباطل، وصوت الشيطان، ومزمار الشيطان، ومنبت النفاق، والسمود:
أســماؤه دلت على أوصاف
تبًّا لذي الأسماء والأوصاف
فيا إخوة الإسلام، إياكم والغناء، فإنه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، كما جاء عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه، ومحب الغناء لا يمكن أن يحب القرآن أبدًا، بل لا يمكن أن يستمع إليه، بل إنه كما قال اللَّه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّه بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 6، 7].
نعوذ باللَّه من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
بقلم الشيخ: عبد العظيم بدوي


