الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه… وبعد:
فقد مضت على الأزهر قرون متعاقبة وهو يؤدي رسالته، ويقود أمته، وقد انتسب إليه علماء أفذاذ يشار إليهم بالبنان، ولا ينسون على طول الزمان ! فمن علمائه: عز الدين بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، والبلقيني، والسبكي، والمنذري، والحافظ العراقي، والحافظ ابن حجر العسقلاني، والمناوي، وابن الحاجب، والزيلعي، والعيني، والبهوتي، والخطيب الشربيني، وابن هشام المصري، وابن عقيل، وغير هؤلاء.
وكان لعلمائه مواقف مشهودة محمودة يحتاج إلى معرفتها والوقوف عليها أبناء هذا الجيل، وكان أهم ما يميز علماء الأزهر أنهم يجمعون بين ثلاثة أمور رحى الإسلام عليها تدور:
* الأمر الأول: الخروج في طلب العلم ؛ امتثالاً لقوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
* الأمر الثاني: أنهم يفهمون الإسلام على أنه يحكم الحياة ؛ وليس مقصورًا على الصلاة !!
ولذلك كانوا يهتمون ببيان حكم الإسلام في كل شيء ! وتوضيح قوله في كل نازلة أو حادثة.
* الأمر الثالث: لا يسكتون على المنكرات ولا يقرون المخالفات مهما كان شأن فاعلها ؛ ولذلك كانوا يقفون في وجه الحكام بالنصيحة والبيان، ويعلنون للناس هذه القاعدة الجليلة من قواعد الشريعة: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، ويمتثلون قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره». وكان لهم في ذلك مواقف مشهودة نسوق جانبًا منها للكرام القارئين ؛ وهذا بيانها:
* اعتدى محمد بك الألفي على فلاحي بلبيس وظَلَمهم، فذهبوا إلى شيخ الأزهر الشيخ عبد اللَّه الشرقاوي، وشكوا إليه ظلم الألفي وأعوانه، واقتنع بصدق دعواهم، فنصح شيخ الأزهر حكام مصر في ذلك الوقت بردع الألفي عن ظلمه، فلم يستجيبوا لنصيحته، فجمع علماء الأزهر وأمر بإغلاق المسجد وإغلاق الحوانيت، وتجمع الناس وذهبوا مع شيخ الأزهر إلى بيت الشيخ محمد السادات قريبًا من بيت الحاكم، فرآهم وقال: ماذا يريدون ؟
قالوا: نريد العدل ورفع الظلم وإقامة الشرع وإبطال الضرائب التي ابتدعتموها. فقال الحاكم: لا نستطيع استجابة هذا المطلب ؛ لأنه يضيق علينا المعاش والنفقات، فقال العلماء: هذا ليس بعذر، ولا يقبل عند اللَّه، ولا عند الناس.
وانتهى الأمر بنزول الأمراء على ما رآه العلماء ونفذوا رغباتهم.
* الأزهر ينهى الحاكم عن المنكر !!
كان علماء الأزهر مشهورين بأنهم لا يسكتون عن منكر، ومن ذلك ما كتبه الشيخ أبو الأنوار إلى الأمير عثمان والي مصر ينبهه إلى ما ارتكبه من ظلم وطغيان، ويعيّره بجبنه أمام الفرنسيين.
ومما جاء في خطابه: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، وما هي من الطاغين ببعيد… أما بعد: فقد نقضت عهدي وتركت مودة آل بيت جدي ! وأطعت الظلمة السفلة فأعنتهم على البغي والفجور، وسارعت في تنجيز مرامهم الفاسد على الفور من إلزامكم الكبير والصغير والغني والفقير إطعام عسكركم الذي أوقع بالمؤمنين الذل والمضرات، وبلغ في النهب والفساد غاية الغايات، فكان جهادهم في أماكن الموبقات والملاهي، حتى أنزل بالمسلمين أعظم المصائب والدواهي، فاستحكم الدمار والخراب، ومنعت الأقوات، وانقطعت الأسباب ؛ فبذلك كان عسكركم مخذولاً، وبهم عمّ الحريق كل بيت كان بالخير مشمولاً ! وقد أخفتم أهل البلد بعد أمنها، وأشعلتم نار الفتنة بعد إطفائها، ثم فررتم فرار الفيران من النسور !! وتركتم الضعفاء متوقعين أشنع الأمور فواغوثاه !! واغوثاه !! أغثنا يا غياث المستغيثين، واحكم بعدلك يا أحكم الحاكمين، وانصرنا وانتصر لنا فإننا عبيدك الضعفاء المظلومون يا أرحم الراحمين.
* الأزهر يعلن: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
في ولاية بكير باشا وردت إلى مصر مراسيم سلطانية بإبطال بعض المرتبات المستحقة لبعض الأيتام، وحبس بعض الأموال الموقوفة على الخيرات، وتلاها القاضي العثماني المقيم بالقاهرة على العلماء، وطلب منهم تنفيذ أمر السلطان قائلاً لهم: أمر الخليفة لا يرد، ويجب طاعته، فقال الشيخ سليمان المنصوري – من كبار علماء الأزهر -: هذا شيء جرت به العادة في مدة الملوك السابقين، وتداوله الناس، ورتبوه على الخيرات والمساجد وجهات البر، ولا يجوز إبطال ذلك حتى لا تبطل الخيرات، وتتعطل الشعائر الدينية، ولا يجوز لأحد يؤمن باللَّه ورسوله أن يفعل ذلك ؛ وإن أمر به ولي الأمر !! فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
* شيخ الأزهر يمنع تدخل بريطانيا في شئون مصر !!
في أواخر الحرب العالمية الثانية قامت بريطانيا بممارسة ضغوط على الحكومة المصرية – كما يفعلون الآن – لإجبارها على الاشتراك في الحرب، وغضب علماء الأزهر، وخطب شيخ الأزهر المراغي في جامع الرفاعي، فقال في خطبته: نسأل اللَّه أن يجنبنا ويلات حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل ! وغضب الإنجليز غضبًا شديدًا، وطلبوا من الحكومة المصرية بيانًا عن خطبة الإمام ! فاتصل رئيس الوزراء بشيخ الأزهر، وخاطبه بلهجة مشوبة بالتهديد غير الصريح، فغضب شيخ الأزهر غضبًا شديدًا، وقال له: أمثلك يهدد شيخ الأزهر ؟! إن شيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة ! ولو شئت لارتقيت منبر مسجد الحسين، وأثرت عليك الرأي العام، ولو فعلت لوجدت نفسك على الفور بين عامة الشعب ؟! فاعتذر إليه رئيس الوزراء، ورأى الإنجليز أنه من الخير لهم عدم إثارة الموضوع !
* الأزهر يرفض الولاء للغرب:
أراد نابليون أن يحمل العلماء شارة العلم الفرنسي رمزًا للولاء والطاعة، فأعدّ طيلسانات ملونة بألوان العلم الفرنسي الثلاثة: الأبيض والأحمر والأزرق، ودعا إليه أعضاء الديوان من العلماء، وقام بوضع الطيلسان على كتف الشيخ الشرقاوي شيخ الأزهر في صورة تكريم له، فغضب الشيخ الإمام، ولم يرع حرمة نابليون ورمى بالطيلسان إلى الأرض، وتغير مزاجه، وانتقع لونه، واحتدّ طبعه ! وحاول الترجمان أن يشرح له الهدف من هذا فقال له وللعلماء: إنكم صرتم أحبابًا للقائد، وهو يريد تعظيمكم وتشريفكم بزيّه وعلامته، فإذا تميزتم بهذا أنتم ومن معكم من العلماء عظمتكم الجنود والناس، وصارت لكم منزلة في قلوبهم !! فقال الشيخ الشرقاوي شيخ الأزهر: لكن قدرنا يضيع عند اللَّه وعند إخواننا المسلمين !!
* الأزهر يمنع مجلس الشورى من إصدار القوانين المخالفة للشريعة:
في أواخر سنة 1316هـ حدث اختلاف كبير في إصلاح المحاكم الشرعية، وعرضت الحكومة على مجلس شورى القوانين اقتراحًا بندب قاضيين من مستشاري محكمة الاستئناف لمشاركة قضاة المحكمة الشرعية العليا في إصدار الأحكام، فرأى الشيخ حسونة النواوي شيخ الأزهر في هذا اعتداء على المحاكم الشرعية التي تنفرد بتطبيق شريعة اللَّه، وليست بحاجة إلى الاستعانة برجال القانون المدني الذي هو من صنع البشر.
ووقف شيخ الأزهر في مجلس الشورى يرد على رئيس النظار في عنف، واحتد الجدال، وخرج الشيخ الإمام من المجلس غاضبًا وتبعه في الخروج القاضي التركي، وكانت النتيجة أن خذل المجلس الحكومة ورفض المشروع !!
* شيخ الأزهر يحبط المؤامرة على الأزهر:
كان كل شيخ أزهر حريصًا على الدفاع عنه بوصفه قلعة حصينة للثقافة الإسلامية واللغة العربية، وحدث في فترة تولي الشيخ الظواهري مشيخة الأزهر أن طالب عدلي باشا رئيس الوزراء وعلي الشمسي باشا وزير المعارف حينئذ بضم الأزهر إلى وزارة المعارف !! باعتبارها المسئولة عن التربية والتعليم في مصر ! مع الاحتفاظ لشيخ الأزهر بمنصبه ومكانته ؛ فثار الشيخ الظواهري وقال: كيف نضم الأزهر لوزارة المعارف في الوقت الذي ننادي فيه باستقلال الجامعة المصرية، وبعدها عن نفوذ وزارة المعارف، اللهم إلا إذا كان وراء هذا الضم غرض خفي هو: القضاء على الأزهر وعلى نفوذه الديني في البلاد ؛ وهذه هي أمنية الدول الاستعمارية !! واتصل شيخ الأزهر بالملك فناقشه واقتنع بوجهة نظره، وظل للأزهر وعلمائه مكانهم المرموق.
* الأزهر يدافع عن اللغة العربية:
شن أعداء الإسلام حربًا عنيفة على اللغة العربية، ونجحوا في تحويل تركيا وإندونيسيا من الكتابة بالحروف العربية إلى الكتابة بالحروف اللاتينية([1]).
وما زالت هذه المحاولات للقضاء على اللغة العربية قائمة ومستمرة، وقد شنت اليونسكو حملات عنيفة على اللغة العربية ووصفتها بالقصور عن استيعاب الثقافة العالمية !! وقد قام الأزهر منذ عشرات السنين بدور فعال في مقاومة هذه الهجمة الشرسة، فأصدر فتاوى إلى الشعوب الإسلامية بوجوب تعلم اللغة العربية على المسلمين بالقدر الذي تستقيم به العقيدة والعبادة، ووضع الأزهر خططًا لإنشاء معاهد تابعة له في البلاد الإسلامية من أهم أهدافها تعليم اللغة العربية، ووضعت دراسات لإنشاء إذاعات موجهة لتحقيق نفس الهدف بالإضافة إلى تعليم الجاليات الإسلامية بمدينة البعوث قواعد وأسس اللغة العربية.
وبعــد…
هل يعود الأزهر إلى سابق عهده ويسترد ما سلبه الأعداء من مجده ؟ نسأل اللَّه ذلك، وما ذلك على اللَّه بعزيز.
وصلى اللَّه وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
بقلم رئيس التحرير