الثلاثاء 4 جمادى الآخرة 1447 25-11-2025

رئيس التحرير
مصطفي خليل أبو المعاطي

الثلاثاء 4 جمادى الآخرة 1447 25-11-2025

باب الآداب (الأستئذان)

أحدث الأخبار

مقالات متنوعة

لقد حرص الإسلام على غرس مبادئه في نفوس أبنائه معلمـًا لهم أن للبيوت حرمات يجب مراعاتها واحترامها، ولا يمكن استباحتها دون استئذان مسبق ؛ لأن البيوت سكن لأصحابها يستريحون فيها من الكد والتعب، ويتبسطون فيها مع الأهل والولد، ويتخففون فيها من الملابس والأثمال، وربما يكونون على حالة يكرهون أن يراهم أحد وهم عليها، لذلك جاء الأمر الإلهي بضرورة الاستئذان قبل دخول البيوت، يقول اللَّه تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَـنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *‏  ‏فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور: 27، 28].

لهذا قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليم أصحابه كيفية الاستئذان والتمسك بهذه الآداب، حتى يحفظ على المؤمنين ماء وجوههم، ويبعدهم عن مواطن الحرج، ولا يخدش حياء المسلم في بيته وبين أهله وولده، فعن ربعي بن حراش، رضي اللَّه عنه، قال: حدثنا رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: أألج ؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لخادمه: «اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: السلام عليكم أأدخل ؟». فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل. [رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح].

وهذا الاستئذان منافي لما كان عليه القوم في جاهليتهم، لقد كانوا يهجمون على البيوت هجومـًا، بحيث لا يعلم صاحب البيت بالضيف ولا بالزائر إلا بعد أن تقع عليه عيناه، ولذلك فإن اللَّه تبارك وتعالى لا يحب لعباده المسلمين أن يقتحموا البيوت على أصحابها، لهذا أمرهم بالاستئذان أيضـًا حتى لا تقع الوحشة في قلوب الآمنين في بيوتهم، المطمئنين في أوكارهم، فعن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك، وإلا فارجع». متفق عليه.

فعن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال: استأذنت على عمر بن الخطاب ثلاثًا فلم يؤذن لي، فأدبرت، فأرسل إلي، فقال: يا عبد اللَّه، اشتد عليك أن تحتبس على بابي ؟ اعلم أن الناس كذلك يشتد عليهم أن يحتبسوا على بابك، فقلت: بل استأذنت عليك ثلاثـًا، فلم يُؤذن لي، فرجعت وكنا نؤمر بذلك، فقال: ممن سمعت ذلك ؟ فقلت: سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أسمعت من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع ؟ لئن لم تأتني على هذا ببينة لأجعلنك نكالاً، فخرجت حتى أتيت نفرًا من الأنصار جلوسـًا في المسجد، فسألتهم، فقالوا: أَوَ يشك في هذا أحد ؟ فأخبرتهم بما قال عمر، فقالوا: لا يقوم معك إلا أصغرنا، فقام معي أبو سعيد الخدري إلى عمر، فقال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد سعد بن عُبادة حتى أتاه، فسلم فلم يؤذن له، ثم سلم الثانية، ثم الثالثة فلم يؤذن له، فقال: «قضينا ما علينا». ثم رجع فأدركه سعد، فقال: يا رسول اللَّه، والذي بعثك بالحق، ما سلمت من مرة إلا وأنا أسمع وأرد عليك، ولكن أحببت أن تكثر من السلام عليَّ وعلى أهل بيتي، فقال أبو موسى: واللَّه إن كنت لأمينـًا على حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال عمر معاتبـًا نفسه: أخفي عليَّ من أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ ألهاني الصفقُ بالأسواق ؛ يعني الخروج إلى التجارة.

هذا هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي عصمه اللَّه من كل ذنب لم يسمح لنفسه أن يقتحم البيوت إلا بعد استئذان أصحابها وإعلام أهلها بقدومه، بل ولقد روي أيضـًا عنه فيما جاء عن عبد اللَّه بن بشر قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: «السلام عليكم.. السلام عليكم». ذلك أن الدور لم يكن يومئذ عليها ستور.

وهذا من الحرص الشديد على صيانة الأعراض، فإنه من الممكن أن يفتح الباب فجأة فينظر إلى داخل البيت فتقع عيناه على ما حرم اللَّه.

وحتى لا يترك لمرضى القلوب شيئـًا، ويقطع الطريق على كل من تسول له نفسه أن يتلصص على بيوت الآخرين أو يتحسس عورات الناس، أو يتجسس على ما خفي عليه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح». متفق عليه.

وإذا كانت الدول في عصرنا الحاضر لا تسمح لأحد بدخول أرضها إلا بعد الحصول على إذن بالدخول وتأشيرة ذلك، وتعاقب على ذلك أشد العقاب، فإن البيوت أولى ؛ لأن خطرها أعظم، وحرمتها أشد.

ويأتي هذا الأدب إلى ذروته وعظمته، ويصل إلى درجة يقف الإنسان العاقل أمامه مشدوهـًا عندما يخاطب اللَّه تبارك وتعالى عباده ويقول لهم: {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} ؛ لأن اللَّه تعالى لا يحب لعباده إلا الخير والفلاح، وهو أعلم بما تستريح إليه النفوس وتطمئن إليه القلوب، وهو سبحانه أدرى بمصلحة عباده.

فهذا من أخلاق المسلمين، ومن آداب النبوة، وهذا ما أمرنا ربنا سبحانه وتعالى أن نسير عليه، وما وجب على كل مسلم في كل مكان أن يتمسك به وينادي إليه ويعمل بموجبه.

واللَّه الموفق.

بقلم الشيخ / عبد القادر محمد السباعي

أخبار متعلقة

اترك رد

من فضلك أدخل تعليقك!
يرجى إدخال اسمك هنا