الحمد للَّه.. والصلاة والسلام على رسول اللَّه.. وبعد:
فإن الهجرة شرف عظيم، ومنزلة رفيعة نالها المهاجرون !
ومع بداية عام هجري جديد يتجدد الحديث عن الهجرة.
ونتناول في هذا البحث الموجز – بإذن اللَّه – ثلاث كلمات يدور الحديث حولها ؛ وهي الهجر، والهجرة، والمهاجر، فنقول مستعينين باللَّه:
الهجْر والهجران: مفارقة الإنسان غيره ؛ إمّا بالبدن أو باللسان أو بالقلب، قال تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34]، فهذا هجر بالبدن، بمعنى عدم القرب في الفراش.
وقال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، فهذا هجر بالقلب، أو بالقلب واللسان.
وقال تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} [المزمل: 10]، وهذا يحتمل هجر القلب أو اللسان أو البدن أو الثلاثة معًا، ومثله قوله تعالى: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]، وأما قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]، فهذا أمر بالمفارقة والمتاركة بالوجوه كلها مع السخط والنفور.
وأما الهجرة التي تحدث عنها القرآن الكريم وسمى أهلها مهاجرين فمعناها: الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان.
أو: انتقال المؤمن بدينه من بلد الفتنة والخوف إلى بلد يأمن فيه على نفسه ودينه، كما حدث في الهجرة إلى الحبشة، وكذلك الهجرة من مكة إلى المدينة.
وقد تحدث العلماء – قديمًا – عن الهجرة وما يتعلق بها، وكذلك عن الهجر والمهاجر، ونسوق – هنا – للقارئ الكريم جملة من لطائف المعارف، وفرائد الفوائد، ورءوس المسائل التي تمس الحاجة إلى معرفتها، بغير تطويل ممل، ولا اختصار مخلّ !
* المسألة الأولى: قال ابن القيم – رحمه اللَّه -: (وله – أي للمؤمن – في كل وقت هجراتان: هجرة إلى اللَّه بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل، والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء، والإقبال عليه، وصدق اللجوء والافتقار في كل نفَسَ إليه… وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة ؛ بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفضيل محاب اللَّه ومرضاته، ولا يقبل اللَّه من أحد دينًا سواه، وكل عمل سواه فعيش النفس وحظها لا زاد المعاد) !!
* الثانية: ذكر العلاّمة أبو بكر ابن العربي المالكي – رحمه اللَّه – أنواع السفر التي يسافرها البشر، فنقل عن العلماء تقسيمًا بديعًا عجيبًا غريبًا ! فقال – رحمه اللَّه -: قسّم العلماء رضي اللَّه عنهم الذهاب في الأرض قسمين: هربًا وطلبًا !!
فالأول – أي الهرب – ينقسم إلى ستة أقسام:
1- الهجرة: وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ؛ وكانت فرضًا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن بقي في دار الحرب عصى ؛ ويختلف في حاله – أي حكمه.
2- الخروج من أرض البدعة ؛ قال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: (لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسب فيها السلف). قال ابن العربي: وهذا صحيح ؛ فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزُل عنه ! قال اللَّه تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 69].
3- الخروج من أرض غلب عليها الحرام ؛ فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم.
4- الفرار من الأذية في البدن ؛ وذلك فضل من اللَّه أرخص فيه ؛ فإذا خشي على نفسه فقد أذن اللَّه له في الخروج عنه، والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور، وأول من فعله إبراهيم عليه السلام ؛ فإنه لما خاف من قومه قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26]، وقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]، وقال اللَّه مخبرًا عن موسى عليه السلام: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21].
5- خوف المرض في البلاد الوَخَمة، والخروج منها إلى الأرض النزهة !
وقد أذن صلى الله عليه وسلم للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح (المكان الذي ترعى فيه الأنعام) فيكونوا فيه حتى يصحوا.
وقد استثنى من ذلك الخروج من الطاعون ؛ فمنع اللَّه منه بالحديث الصحيح عن نبيه صلى الله عليه وسلم.
6- الفرار خوف الأذية في المال ؛ فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله وأوكد…
وأما قسم الطلب – أي القسم الثاني – فينقسم قسمين: طلب دين، وطلب دنيا، فأمّا طلب الدين فيتعدّد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام:
1- سفر العِبْرة ؛ قال اللَّه تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [الروم: 9] وهو كثير. ويقال: إن ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها، وقيل: لينفذ الحق فيها.
2- السفر للحج، والأول وإن كان ندبًا – أي مستحب – فهذا فرض.
3- سفر الجهاد، وله أحكامه.
4- سفر المعاش ؛ فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة فيخرج في طلبه لا يزيد عليه من صيد أو احتطاب أو احتشاش فهو فرض عليه !!
5- سفر التجارة والكسب الزائد على القوت، وذلك جائز بفضل اللَّه سبحانه وتعالى ؛ قال اللَّه تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 198] يعني التجارة، وهي نعمة منَّ اللَّه بها في سفر الحج ؛ فكيف إذا انفردت !
6- السفر في طلب العلم ؛ وهو مشهور. (يعني في زمانه، وليس زماننًا).
7- قصد البقاع ؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد».
8- السفر للثغور للرباط بها وتكثير سوادها للذب عنها.
9- زيارة الإخوان في اللَّه تعالى ؛ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «زار رجلٌ أخًا له في قرية، فأرصد اللَّه له ملكًا على مدرجته(1)، فقال: أين تريد ؟ فقال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك من نعمة تربُّها عليه ؟ قال: لا ؛ غير أني أحببته في اللَّه عز وجل، قال: فإني رسول اللَّه إليك بأن اللَّه قد أحبك كما أحببته فيه». رواه مسلم وغيره.
* الثالثة: قال الخطابي – رحمه اللَّه -: (كانت الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام مطلوبة، ثم افترضت – أي صارت فرضًا – لما هاجر إلى المدينة، للقتال معه صلى الله عليه وسلم، وتعلم شرائع الدين، وقد أكد اللَّه ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72]، فلما فتحت مكة، ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل سقطت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب). اهـ.
قال البغوي في «شرح السنة» وهو يجمع بين انقطاع الهجرة واستمرارها، قال: لا هجرة بعد الفتح ؛ أي من مكة إلى المدينة، ولا تنقطع الهجرة من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام.
وقال الماوردي: (إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام ؛ فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام).
* الرابعة: قال الحافظ ابن حجر – رحمه اللَّه – في بيان معنى (لا هجرة بعد الفتح) من صحيح البخاري: (لا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون، أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة:
الأول: قادر على الهجرة منها لا يمكنه إظهار دينه، ولا أداء واجباته فالهجرة منه واجبة.
الثاني: قادر لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته فمستحبة لتكثير المسلمين بها – أي البلد الذي سيهاجر إليه – ومعونتهم، وجهاد الكفار والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.
الثالث: عاجز بعذر من أسْر أو مرض أو غيره فتجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه، وتكلف الخروج منها أُجر). اهـ. من فتح الباري (ج 6).
* الخامسة: قال ابن مفلح – رحمه اللَّه – في بيان حكم هجر أهل المعاصي: يُسنُّ هجر من جهر بالمعاصي الفعلية والقولية والاعتقادية، وقيل: يجب إن ارتدع به، وإلا كان مستحبًّا، وقيل: يجب هجره مطلقًا إلا من السلام بعد ثلاثة أيام، وقيل: ترك السلام على من جهر بالمعاصي حتى يتوب منها فرض كفاية، ويكره لبقية الناس تركه. ونقل عن الشيخ موفق الدين – رحمه اللَّه – قوله: (كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع، والنظر في كتبهم، والاستماع لكلامهم). قُلْتُ – القائل الكاتب -: وهذا يعني أنهم علماء سوء ودعاة بدعة وضلالة.
أما غير المجاهر بالمعاصي، وهو من يفعل المعصية سرًّا فقد سئل الإمام أحمد: إذا علم من الرجل الفجور أنخبر به الناس ؟ قال: لا، بل يستر عليه إلا أن يكون داعية. وقال القاضي: فإن كان يستتر بالمعاصي فظاهر كلام أحمد أنه لا يهجر.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه اللَّه -: (المستتر بالمنكر ينكر عليه ويستر عليه، والمظهر للمنكر يجب الإنكار عليه علانية، ولا يبقى له غيبة). وذكر المهدوي في «تفسيره»: إنه لا ينبغي لأحد أن يتجسس على أحد من المسلمين، فإن اطلع منه على ريبة وجب أن يسترها ويعظه مع ذلك ويخوفه باللَّه تعالى).
أما هجر المسلم العدل في اعتقاده وأفعاله فقد ذكر العلماء أنه من كبائر الذنوب ؛ لحديث: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث…» الحديث، ومعلوم أن السنة الصحيحة قد نهت عن المعاداة والمقاطعة، وأوجبت على المسلم أن يكون حبه في اللَّه، وبغضه في اللَّه، وقال النووي في «شرح مسلم»: قال العلماء رضي اللَّه عنهم: إنما عفي عنها في الثلاثة ؛ لأن الآدمي مجبول على الغضب وسوء الخلق، ونحو ذلك فعفي عنها في الثلاث ليزول ذلك العارض.
والهجر المحرم يزول بالسلام، ولا ينبغي له أن يترك كلامه بعد السلام عليه، وظاهر كلام الإمام أحمد – كما نقله العلماء – أنه لا يخرج من الهجرة بمجرد السلام، بل يعود إلى حاله مع المهجور قبل الهجرة…
* السادسة: قال العلاّمة محب الدين الخطيب – رحمه اللَّه -: نحن محتاجون اليوم – من معاني الهجرة وأهدافها وحكمتها – إلى أن ننخلع في بيوتنا عن الآداب التي تخالف الإسلام، وأن نعيد إلى هذه البيوت الصدق والصراحة والنبل والاستقامة والاعتدال والمحبة والتعاون على الخير. فالبيت الإسلامي وطن إسلامي، بل هو دولة إسلامية، وقبل أن أتبجح فأنتقد ما خرج عن دائرتي من بيئات لا يفيدها انتقادي شيئًا، يجب عليَّ أن أبدأ بمملكتي التي هي بيتي فأهاجر أنا ومن فيه من زوجة وبنات وبنين إلى ما يحبه اللَّه من الصدق، هاربين من الكذب الذي يكرهه اللَّه ويلعن أهله في صريح كتابه، ويجب أن أنخلع أنا وأهل بيتي من رذيلتي الإفراط والتفريط فنكون معتدلين في كل شيء ؛ لأن الاعتدال ميزان الإسلام، ويجب أن نحب أنظمة الإسلام وآدابه محبة تمازج دماءنا، فنتحرى هذه الأنظمة في أخلاقنا وأحوالنا وتصرفاتنا ومعاملة بعضنا لبعض، (هاجرين) كل ما خالفها مما اقتبسناه عن الأغيار وخَذَلْنا به مقاصد الإسلام فضيعنا أغراضه الجوهرية.
إذا تربينا في بيوتنا على محبة الأنظمة الإسلامية، وتأصل ذلك في أذواقنا وميولنا، وتعودنا العمل به في مختلف ضروب الحياة، فشا العمل به حينئذ من البيوت إلى الأسواق والأندية والمجتمعات ودواوين الحكم، ولا يلبث الوطن كله بعد عشرات قليلة من السنين أن يتحول من وطن عاص للَّه، إلى وطن مطيع للَّه، ومن وطن تسود فيه الأنظمة التي يسخطها اللَّه، إلى وطن تسود فيه الأنظمة التي أمر بها اللَّه.
فإلى الهجرة أيها المسلمون…
إلى هجر الخطايا والذنوب في أعمالنا، وأخلاقنا، وتصرفاتنا.
إلى هجر ما يخالف أنظمة الإسلام في بيوتنا، وما نقوم به من أعمالنا.
إلى هجر الضعف والعطالة والإهمال والسرف والكذب والرياء ووضع الأشياء في غير مواضعها.
إلى هجر الأنانية والصغائر والسفاسف مما أراد نبي الرحمة أن يطهر منه نفوس أمته، حتى تكون خير أمة أُخرجت للناس كما أراد اللَّه لها.
وصلى اللَّه وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
كتبه/صفوت الشوادفي


