الحمد للَّه وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.. وبعد:
فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة في المسيح عليه السلام عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، وقبل ذكرها تسبقها مقدمة.
¯ إن عيسى عليه السلام سُمي بالمسيح ؛ لأنه ما مسح على ذي عاهة إلا برئ بإذن اللَّه ؛ وقال بعض أهل العلم: سمي مسيحًا لمسحه الأرض، وكثرة سياحته فيها للدعوة إلى الدين.
وعلى هذين القولين يكون المسيح بمعنى ماسح.
وقيل: سمي مسيحًا ؛ لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص له، وقيل: لأنه مسح بالبركة، أو طهر من الذنوب فكان مباركًا، وعلى هذين القولين يكون مسيح بمعنى ممسوح. والراجح الأول.
¯ عقيدة أهل السنة والجماعة في المسيح عليه السلام:
إن أهل السنة والجماعة يؤمنون ويعتقدون ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كما رواه البخاري وغيره: «من شهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد اللَّه ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله اللَّه الجنة على ما كان من العمل».
فعيسى عليه السلام عبد اللَّه، وهو أيضًا رسول اللَّه وخاتم أنبياء بني إسرائيل، وهو كلمة اللَّه (أي خلقه بكلمة كن)، وهو روح من اللَّه ؛ لأن اللَّه قد أقدره على إحياء الموتى بإذن اللَّه، ولأن اللَّه جعله مخلوقًا ذا روح من غير جزء من ذي روح أي من غير أب كغيره من أبناء البشر !
ويعتقد أهل السنة والجماعة أن عيسى ابن مريم عليه السلام ليس ربًّا ولا إلهًا يعبد كما يزعم أهل الضلال، بل هو بشر رسول يوحى إليه، كما قال اللَّه عز وجل: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75].
وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59]، فأثبت اللَّه الله سبحانه العبودية لعيسى عليه السلام والرسالة كذلك بإنعام الله عليه .
وقوله تعالى: { قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } [المائدة: 17].
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 116، 117].
ويعتقد أهل السنة والجماعة أن من قال: إن اللَّه هو المسيح ابن مريم فقد كفر، وكذلك من قال: إنه ابن اللَّه فقد كفر، ومن قال: إن اللَّه ثالث ثلاثة فقد كفر.
ودليل ذلك من القرآن قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، ثم رد عليهم بقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 72].
وقال تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73]، ورد عليهم بقوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73].
ويعتقد أهل السنة والجماعة أن عيسى عليه السلام لم يُصلب، ولم يُقتل، بل ألقى اللَّه شبهه على رجل آخر من اليهود، فقتلوه، وظنوا أنهم قتلوا المسيح عليه السلام، لكن العقيدة الصحيحة أن عيسى عليه السلام لم يُقتل، ولم يُصلب، وأن اللَّه رفعه إلى السماء حيًّا بروحه وجسده، وأنه مازال عليه السلام حيًّا في السماء لم يمت إلى أن ينزل في آخر الزمان.
قال اللَّه تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157، 158].
وأما قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [آل عمران: 55]، فالراجح الصحيح في معنى الآية: أن اللَّه يقبض رسوله عيسى عليه السلام من الأرض ويرفعه إليه حيًّا ويخلصه بذلك من الذين كفروا، وأما تفسير التوفي بالإماتة فهو ضعيف مردود ؛ إذ لم يقم عليه دليل صريح صحيح.
ويعتقد أهل السنة والجماعة أن عيسى عليه السلام سينزل آخر الزمان ويحكم بين الناس بالعدل، متبعًا في ذلك شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، وسيؤمن به أهل الكتاب اليهود والنصارى قبل موته بعد أن ينزل آخر الزمان ؛ قال اللَّه تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159].
وقد ثبت رفعه عليه السلام ونزوله آخر الزمان من طرق كثيرة في السنة الصحيحة ؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: (فهذه أحاديث متواترة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وأبي أمامة والنواس بن سمعان وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وحذيفة بن أسيد، رضي اللَّه عنهم).
ومن هذه الأحاديث ما رواه أبو هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد». قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية.
وثبت في الصحيح أيضًا أن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة». قال: «فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام فيقول أميرهم: تعال صلّ لنا. فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة اللَّه لهذه الأمة».
فدلت الأحاديث الصحيحة الصريحة على نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان، وعلى أنه يحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، وعلى أن إمام هذه الأمة في الصلاة وغيرها أيام نزوله يكون من هذه الأمة. وعلى أنه عليه السلام يكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويقتل الدجال، ويضع الجزية، وليس هناك منافاة بين نزوله وبين ختم النبوة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث إن عيسى عليه السلام لم يأت بشريعة جديدة.
ويعتقد أهل السنة والجماعة أن الإنجيل كتاب سماوي نزل من اللَّه، فيه هدًى ونور وموعظة للمتقين، وقد أمر اللَّه النصارى أن يحكموا بما أنزل اللَّه فيه ؛ فقال تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
ومما أنزل اللَّه في الإنجيل ما أرشد القرآن إليه في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
ولكن أهل الكتاب قد أحدثوا في التوراة والإنجيل تحريفًا وتبديلاً وزيادة ونقصًا فلم يحفظوا كتاب اللَّه كما أمرهم اللَّه.
قال تعالى في بيان هذا التحريف والتبديل: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]، وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} [آل عمران: 78].. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تحريفهم وتبديلهم لكتاب اللَّه، بحيث أصبح الإنجيل يشتمل على حق وباطل ؛ فالحق ما وافق القرآن، والباطل، ما خالفه وما سكت عنه فإننا لا نصدقه ولا نكذبه.
وللَّه الحكم والأمر أولاً وآخرًا، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه وهو العزيز الحكيم.
¯ فائدة في إبطال التثليث:
قال الشيخ رحمة اللَّه الهندي – رحمه اللَّه – في كتابه القيم «إظهار الحق»: (تنصر ثلاثة أشخاص وعلمهم بعض القسيسين العقائد الضرورية لا سيما عقيدة التثليث، فجاء محبٌ من أحباء هذا القسيس، وسأله عمن تنصر ؟ فقال: ثلاثة أشخاص تنصروا، فسأله هذا المحب: هل تعلموا شيئًا من العقائد الضرورية ؟ فقال: نعم، وطلب واحدًا منهم ليري محبه ! فسأله عن عقيدة التثليث ؟ فقال: إنك علمتني أن الآلهة ثلاثة ؛ أحدهم الذي هو في السماء، والثاني الذي تولد من بطن مريم العذراء، والثالث الذي نزل في صورة الحمام على الإله الثاني بعدما صار ابن ثلاث وثلاثين سنة ! فغضب القسيس وطرده وقال: هذا مجهول !؟ ثم طلب الآخر منهم وسأله فقال: إنك علمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة، وصلب واحد منهم فالباقي إلهان !! فغضب عليه القسيس أيضًا وطرده، ثم طلب الثالث – وكان ذكيًّا بالنسبة إلى الأولين، وحريصًا في حفظ العقائد – فسأله فقال: مولاي حفظت ما علمتني حفظًا جيدًا، وفهمت فهمًا كاملاً بفضل الرب المسيح أن الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد، وصلب واحد منهم ومات فمات الكل لأجل الاتحاد ! ولا إله الآن ! وإلا يلزم نفي الاتحاد) !!
وصلى اللَّه وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
رئيس التحرير