الحمد للَّه وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، فما زلنا نتحدث عن فكرة الخضر وحياته إلى اليوم في الفكر الصوفي، وروينا في المقال السابق بعض مرويات الصوفية في كتبهم، فلا يكاد يخلو كتاب من كتب الكرامات، سواء التي كتبها الناس عن المشايخ أو التي سطروها بأنفسهم، ولا يتعجب القارئ الكريم، فقد لا يُصَدِّق أن رجلاً يكتب كتابًا يسرد فيه كراماته، والحقيقة أن ذلك موجود بالفعل، فها هو الشعراني يكتب كتابه «لطائف المنن» المعروف باسم «المنن الكبرى»، ويُصَدّر كتابه هذا بسبب كتابته عن نفسه وتزكيته لها وحصر كراماته بأن الباعث له على ذلك خشية أن يدس عنه الناس كرامات لم يفعلها، فأراد أن يحصر كراماته في حياته خشية أن يمدح بما لم يفعل، ثم راح الرجل يكتب مئات الصفحات التي يبدأها غالبًا بقوله: ومما مَنّ اللَّه تعالى به عليَّ أنني فعلت كذا وكذا، ويذكرنا حالنا وقت قراءة هذا الرجل في كثير من الأحيان، بالخواجة «بيجو» وحيرته مع شطحات «أبي لمعة».
* ملازمة الخرائب تربية باطنية:
يقول عبد القادر الجيلاني: (أقمت في صحراء العراق وخرائبه خمسًا وعشرين سنة مجردًا سائحًا لا أعرف الخلق ولا يعرفونني، يأتيني طوائف من رجال الغيب والجان أُعَلِّمهم الطريق إلى اللَّه عز وجل، ورافقني الخضر عليه السلام في أول دخولي العراق وما كنت عرفته، وشرط أن لا أخالفه، وقال لي: اقعد هنا، فجلست في الموضع الذي أقعدني فيه ثلاث سنين يأتيني كل سنة مرة، ويقول لي: مكانك حتى آتيك، قال: ومكثت سنة في خرائب المدائن آخذ نفسي بطريق المجاهدات، فآكل المنبوذ، ولا أشرب الماء، ومكثت فيها سنة أشرب الماء ولا آكل المنبوذ، وسنة لا أشرب ولا آكل ولا أنام). [«الطبقات الكبرى» للشعراني (1/111)]، ومن عجب أن يترك الجيلاني بني آدم خمسًا وعشرين سنة ويتفرغ لتعليم رجال الغيب والجان الطريق، ثم يأتيه من لا يعرفه، فيأمره ويطيع، فيأكل سنة من البقايا وما يرميه الناس في المهملات ولا يشرب الماء، ثم سنة ثانية وثالثة حَرَمَه النوم، ولا تعرفنا القصة متى علم أن الذي يطيعه هو الخضر، أبَعْد الأعوام الثلاثة ؟ أم بعد أن كلفه بأمور أكثر غرابة ؟
* الخضر يطير في الهواء !!
حكي عن إبراهيم الخواص أنه قال: كنت في البادية جالسًا مستجمع الهم، وقد مضت عليَّ أوقات لم أتناول فيها الطعام، فبينا أنا كذلك إذا بالخضر عليه السلام مارًّا في الهواء، فلما رأيته طأطأت رأسي وغمضت بصري، ولم أنظر إليه، فلما رآني جلس إلى جنبي، فرفعت رأسي، فقال لي: يا إبراهيم، لو أعرتني الطرف ما جئت إليك. [«اللمع» لأبي نصر السراج الطوسي (224)].
* الصوفية يترفعون عن صحبة الخضر:
سُئل الخواص عن أعجب ما رأى ؟ فقال: رأيت منها الكثير، ولكن ليس فيها ما أعجب من أن الخضر عليه السلام طلب مني أن يصحبني فلم أجبه ! قيل: لِمَ ؟ قال: لأني كنت أطلب رفيقًا خيرًا منه، ولكني خشيت أن أعتمد عليه دون الحق، وتضر صحبته بتوكلي، وأتخلف بالنافلة عن الفريضة. [الهجويري في كشف المحجوب (ص 365)، وكررها مطولة في (ص 530)، وحكاها بشكل ثالث في (588)].
يا عجبًا لهؤلاء كيف يصدقون أن مشايخهم يترفعون عن صحبة الخضر عليه السلام، بينما موسى الكليم يقطع المسافات ويلقى التعب والنصب لتنفيذ أمر اللَّه له ولقاء الخضر.
* الخضر يدل تائهي الصوفية:
وكان أبو إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل الخواص يقول: (لقيت الخضر عليه السلام في بادية فسألني الصحبة، فخشيت أن يفسد عليَّ توكلي بالسكون إليه ففارقته، ثم يستطرد قائلاً: عطشت في بادية في طريق الحجاز، فإذا براكب حسن الوجه على دابة شهباء فسقاني الماء، وأردفني خلفه، ثم قال: انظر إلى نخيل المدينة فانزل واقرأ على صاحبها مني السلام وقل: أخوك الخضر يقرأ عليك السلام). [«الطبقات الكبرى» للشعراني (1/84)].
ويا عجبًا من جرأة أهل الشطح، الخضر عليه السلام يطلب صحبة الخواص ويرفض الرجل خشية أن يفسد عليه توكله، ثم يسير في الصحراء بلا زاد أو راحلة حتى إذا عطش يأتيه الخضر فيسقيه ويردفه خلفه ويوصله إلى المدينة، والخواص لا يعرفه.
أما كان أولى له أن يستن بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الهجرة حيث أعد زاده وعدته ورتب دابته واستأجر الدليل، أيخالف الخواص سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم يزعم لقاء الخضر عليه السلام، وكأن مهمة الخضر هي سقي الصوفية وتوصيلهم مكافأة على مخالفتهم هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم !!
* الخضر يحب الشوربة:
وكان الشيخ عبد اللَّه القرشي يجتمع كثيرًا بالخضر عليه السلام، وكان يطبخ طعام القمح كثيرًا، فقيل له في ذلك، فقال: (إن الخضر عليه السلام زارني ليلة فقال: اطبخ لي شوربة قمح، فلم أزل أحبها لمحبة الخضر عليه السلام لها). [«الطبقات الكبرى» للشعراني (1/137)].
ليس الغرض من حكاية الشيخ حب الخضر للشوربة أو ثنائه عليها، وإنما المقصود أن يوهم أتباعه أنه يجالس الخضر ويأكل معه، وأنه يتبع الخضر في كل أموره حتى حبه للشوربة ليس من نفسه إنما اتباع وتقليد للخضر، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم.
* الخضر تابع للحفني:
ويروي الشعراني صاحب «الطبقات الكبرى» (2/92) عن الشيخ الحفني: (أن الخضر عليه السلام كان يحضر مجلسه مرارًا يجلس على يمينه، فإن قام الشيخ قام معه، وإن دخل الخلوة شيعه إلى باب الخلوة). ويقول أبو الحسن الشاذلي: (لقيت الخضر عليه السلام في صحراء عيذاب فقال لي: يا أبا الحسن، أَصْحَبَك اللَّه اللطف الجميل، وكان لك صاحبًا في المقام والرحيل). [«الطبقات الكبرى» للشعراني (2/4)].
* الخضر يعين الأبدال:
يروي السيوطي عن اليافعي عن بعض أصحاب الشيخ عبد القادر الجيلاني قصة غريبة تجعل للخضر دورًا في اختيار الأبدال، حيث يقول: (خرج الشيخ عبد القادر من داره ليلة فانفتح له باب المدرسة، فخرج وخَرَجْتُ خلفه، فإذا نحن في بلد لا أعرفه، فدخل فيه مكانًا شبيهًا بالرباط، فإذا فيه ستة نفر، فبادروا بالسلام عليه، والتجأت إلى سارية هناك، وسمعت أنينًا، فلم نلبث إلا قليلاً حتى سكن الأنين، ودخل رجل وذهب إلى الجهة التي سمعت فيها الأنين، ثم خرج يحمل شخصًا على عاتقه، ودخل آخر مكشوف الرأس طويل الشارب، وجلس بين يدي الشيخ فأخذ عليه الشيخ الشهادتين، وقص شعر رأسه وشاربه، وألبسه طاقية وسماه محمدًا، وقال لأولئك النفر: قد أمرت أن يكون هذا بدلاً عن الميت، قالوا: سمعًا وطاعة، ثم خرج الشيخ وتركهم، وخرجت خلفه، ومشينا غير بعيد، وإذا نحن عند المدرسة في بغداد، فأقسمت على الشيخ أن يبين لي ما رأيت، فقال: أما البلد فنهاوند، وأما الستة فهم الأبدال، وصاحب الأنين سابعهم وكان مريضًا، فلما حضرته وفاته جئت أحضره، وأما الرجل الذي خرج يحمل شخصًا فأبو العباس الخضر عليه السلام، ذهب به ليتولى أمره، وأما الرجل الذي أخذت عليه الشهادتين، فرجل من أهل القسطنطينية كان نصرانيًّا، وأمرت أن يكون بدلاً عن المتوفى، فأتي به فأسلم على يدي وهو الآن منهم). هذا الخبر الذي ينقله السيوطي عن كتاب «كفاية المعتقد» لليافعي، راجع «الحاوي للفتاوي» (2/47)، يلقي بروح اليأس في طريق المريدين، فالتعيين لمناصب الأبدال ليس بالإخلاص في الأوراد أو كثرة حضور الموالد والحضرات، والاعتكاف عند الأعتاب، بل هو اختيار القطب الذي لم يجد في تلك القصة من يصلح لهذا المقام فاختار نصرانيًّا، لم يغتسل بعد غسل الإسلام.
* يخبر بمقام الصوفية عند ربهم:
يقول أبو الحجاج الأقصري: سمعت شيخنا عبد الرزاق يقول: (لقيت الخضر عليه السلام سنة 580 هـ فسألته عن شيخنا أبي مدين فقال: هو إمام الصديقين في هذا الوقت، وسره من الإرادة ذلك آتاه اللَّه تعالى مفتاحًا من السر المصون بحجاب القدس، ما في هذه الساعة أجمع لأسرار المرسلين منه). [«الطبقات الكبرى» للشعراني (1/133)].
ويروي القشيري في رسالته «القشيرية» عن بلال الخواص وننقلها عن السيوطي في كتابه «الحاوي للفتاوي» (2/4691) قال: (كنت في تيه بني إسرائيل، فإذا رجل يماشيني فتعجبت، فألهمت أنه الخضر عليه السلام، فقلت له: بحق الحق من أنت ؟ قال: أخوك الخضر، قلت: أريد أن أسألك، قال: سل، قلت: ما تقول في الشافعي ؟ قال: هو من الأوتاد، قلت: وما تقول في أحمد بن حنبل ؟ قال: رجل صديق، قلت: ما تقول في بشر الحافي ؟ قال: لم يخلق بعده مثله، قلت: بأي وسيلة رأيتك ؟ قال: ببَرَكة أمك).
n شروط اجتماع الصوفي والخضر:
يروي الشعراني في «الطبقات الكبرى» أنه سمع الشيخ علي النبتيتي وهو يقول: (لا يجتمع الخضر عليه السلام بشخص إلا اجتمعت فيه ثلاث خصال، فإن لم تجتمع فيه فلا يجتمع به قط، ولو كان على عبادة الملائكة:
l الخصلة الأولى: أن يكون العبد على سننه في سائر أحواله.
l الثانية: أن لا يكون له حرص على الدنيا.
l الثالثة: أن يكون سليم الصدر لأهل الإسلام لا غل ولا غش ولا حسد.
وحكي له عن الشيخ أبي عبد اللَّه التستري أحد رجال الرسالة «القشيرية» أنه كان يجتمع بالخضر عليه السلام ويقول: إن الخضر لا يجتمع بأحد إلا على وجه التعليم له، فإنه غني عن علم العلماء لما معه من العلم اللدني). [«الطبقات الكبرى» للشعراني (2/113)].
ثم ينسب نفس الحكاية في كتابه «الميزان الخضرية» لشيخه علي الخواص فيقول: (وأخبرني «سيده» علي الخواص أن للاجتماع بالخضر عليه السلام ثلاثة شروط، ومن لا تجتمع فيه لا يجتمع به، ولو كان على عبادة الثقلين:
l الأولى: أن يكون على سُنّة، لا يتدين ببدعة.
l الثاني: أن لا يكون له حرص على الدنيا، فلو خبأ عنده رغيفًا إلى غد لم يجتمع به.
l الثالث: أن يكون سليم الصدر للمسلمين، فلا يكون في قلبه غل، ولا حسد، ولا كبر على أحد منهم.
قال: وكان أبو عبد اللَّه (البشري) – أحد رجال رسالة القشيري – يجتمع به (الخضر) كثيرًا، فوقع أنه قال لزوجته: ضعي هذا الدرهم إلى غد، فانقطع عن رؤيته إلى أن مات، ثم رآه في المنام من بعد، فقال له: ما ذنبي ؟ فقال له: أما علمت أنّا لا نصحب من يخبئ رزق غد). [«الميزان الخضرية» للشعراني (16)].
* الخضر مقام وليس شخص:
يرى بعض الصوفية أن الخضر مقام يصل إليه العارفون وليس صاحب موسى، ويقولون: (إن لكل زمان خضرًا، وأنه نقيب الأولياء، وكلما مات نقيب أقيم نقيب بعده مكانه ويسمى الخضر ؛ ولهذا يختلف الصوفية في وصف الخضر، فمنهم من يراه كهلاً أو شيخًا أو رجلاً أو شابًّا، وهو يؤكد اختلاف المرئي).
يشير أبو العزايم إلى المتنافسين على مرتبة الخضر، فيقول: (في هذا العصر أفراد وأبدال وأقطاب وعلماء وما شاكلهم، كلهم يتنافسون في أن ينالوا مرتبة الخضر عليه السلام، ولكن ما نالها من طريق الفضل إلا الخضر). [«في رحاب أنصار الحق» لمحمود ماضي أبو العزايم (164)].
يقول القاشاني رأيًا آخر: الخضر: كناية عن البسط، وإلياس كناية عن القبض، وأما كون الخضر عليه السلام شخصًا إنسانيًّا باقيًا من زمان موسى عليه السلام إلى هذا العهد، أو روحانيًّا يتمثل بصورته لمن يرشده فغير محقق عندي، بل قد يتمثل له بالصفة الغالبة عليه، ثم يضمحل وهو روح ذلك الشخص أو روح القدس) [«اصطلاحات الصوفية» للقاشاني، تحقيق د. محمد كمال إبراهيم (160)].
وجاء في «معجم مصطلحات الصوفية» للدكتور عبد المنعم الحفني (90) في مادة خضر: الخضر: يعبر به عن البسط، فإن قواه المزاجية مبسوطة إلى عالم الشهادة والغيب، وكذلك قواه الروحية.
* تعقيب هــام:
لا يتسع المقام لذكر كل الصوفية الذين يزعمون رؤية الخضر، وننقل عن الشعراني في «طبقاته الكبرى» وغيرها من مؤلفاته في ترجمة مشايخ الصوفية، أن ممن اجتمع بالخضر: ذو النون المصري، والشيخ عبد الرزاق، وإبراهيم الخواص، وأبو اليزيد البسطامي، وإبراهيم بن أدهم، وأبو الحسن الشاذلي، وأبو العباس المرسي، وياقوت العرشي، وعلي الضرير النبتيتي، وعلي الخواص، وأفضل الدين، ومحمد المنير وغيرهم، ولا تنتهي الأمثلة من كتب الشعراني، بل ومصنفات أبي نعيم والقشيري وابن عربي والجيلي والشبلنجي والسرهندي واليافعي وغيرهم، لا تخلو من الإشارة إلى اجتماع الأولياء والخضر عليه السلام.
وقد يرى البعض أن هذه لا ضرر من الاستماع إليها، ولكنها في حقيقة الأمر تهدف إلى تزكية رجال التصوف، فأين الشافعي وعلمه بزعمهم ؟! وأين الإمام أحمد بن حنبل وفقهه وحفظه للحديث، ثم مواقفه لحماية العقيدة من بشر الحافي، ثم إذا تأملنا لقاءاتهم الخضر عليه السلام نلاحظ أمرًا هامًّا أن كل مروياتهم تختلف عن أفعاله الثلاث مع موسى عليهما السلام، ولا نجد قصة واحدة تلقي ضوءًا عن شخصية الخضر عليه السلام تصلح أن نضيفها إلى ما قصه القرآن عنه، بل على العكس تمامًا نجد قصص الصوفية تسيء إليه وتنقص من قدره، فنراه يأمر الجيلاني بالاعتزال ثلاث سنوات ليس له طعام إلا المنبوذ من الطعام، ولو كان هدفه تهذيب نفسه لأمره بالاعتكاف الشرعي في رمضان في المسجد، ثم نرى الخضر يعرض نفسه على الخَوّاص ليصحبه فيأبى، ثم يماشي الحفني تابعًا له، ثم يعلم ابن الحواري رقيةً مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
إن حياة الخضر إلى اليوم ليست موضوعًا ثانويًّا في الفكر الصوفي، بحيث لا يضر الصوفي التصديق به أو إنكاره، بل لقد أصبح في حقيقة الأمر عمود الرحى الذي تدور حوله مجموعة من الأفكار، فأصبحت حزمة من المبادئ المترابطة، لا يُقبل أن يؤمن الصوفي ببعضها ويكفر ببعض، فمجرد رد الصوفي لموضوع واحد ينفرط عقد الفكر الصوفي بالكلية.
وإلى اللقاء في العدد القادم إن شاء اللَّه.
بقلم / محمود المراكبي