الحمد للَّه الواحد الأحد، الذي لم يَلد، ولم يُولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي بعث الرسل مبشرين ومنذرين، فدعوا الناس إلى أن يعرفوا ربـًّا خلقهم فيعبدوه، ولا يشركوا معه أحدًا، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّه هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56- 58]، والصلاة والسلام على الهادي البشير النذير الذي اصطفاه ربه، فأيده برسالته، فدعى الناس لدين اللَّه، فهدى اللَّه به من الكفر، وبصر به من العمى، وأرشد من الغواية، ورفع اللَّه به من الخسة، وأعلى به من الضعة، صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره وتبع سنته إلى يوم القيامة، وبعد:
اللَّه سبحانه خلق آدم عليه السلام وعلمه التوحيد، وأهبطه إلى الأرض، ولم تكن الأرض خالية من العباد للَّه رب العالمين، بل إن الملائكة لتقول: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]، أخبرت الملائكة أن الأرض مستغنية عن ذلك المخلوق الجديد الذي يُفسد فيها ويسفك الدماء، بينما الملائكة يسبحون ويقدسون لربهم، فلما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض وأذن اللَّه له بذرية قام فيهم بالإسلام، وعلمهم التوحيد في العبادة ودعاهم إليه، ولكن الشيطان لم يتركهم حتى جعـل من بني آدم – بعـد عشـرة قرون كانت على التوحيد – من يعبد الأصنام، فبعث اللَّهُ نوحـًا عليه السلام يدعو الناس لتوحيد اللَّه ونبذ الشرك، فأطاعه قليل وكذبه الكثير، فأهلك اللَّه المشركين، وأنجى الموحدين، وجعل اللَّه ذرية نوح عليه السلام هي الباقية.
ومع ذلك خرج من هذه الذرية «ذرية الموحدين» قوم عاد وثمود الذين أشركوا، فعبدوا الأوثان والأصنام من دون اللَّه، فبعث اللَّه إلى عاد هودًا عليه السلام، وإلى ثمود صالحـًا عليه السلام يدعوهم إلى التوحيد،
فكذبوه ولم يؤمن بهما إلا قليل، فأبقى اللَّه الموحدين، وأهلك المشركين، فخرج من ذريتهم قوم إبراهيم الذين عبدوا الأوثان والكواكب، وعبدوا ملكهم النمرود، وقص رب العزة علينا ذلك ليعلمنا أن الشيطان بوسوسته يُدخل الشرك على أبناء الموحدين.
هذه واحدة، ونضيف إليها أن الرقي المادي والتقدم التقني لا يثبت في قلوب أصحاب الناس التوحيد ولا ينفي عنهم الشرك، ولا يحجبهم عن الشيطان، فاللَّه سبحانه يذكرنا في سورة «الفجر»، فيقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 6- 14]. فتلك أمم كانت لها من الحضارات التي لا تزال آثارها إلى اليوم شاهدة بتقدمهم العلمي في تحنيط جثث موتاهم، وبناء معابدهم، والأهرامات التي لا تزال شاهدة على ذلك لم يمنعهم ذلك من وقوع الشرك فيهم، وكذلك أمم الكفر التي غزوا بها بلاد الدنيا، ومع ذلك فهم أمام أصنام صنعوها في معابد يركعون لها ويعبدونها، وفيهم صور من الشرك الكثير الذي لا نتخيله شغلهم بذلك أنهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].
وإن أكثر أمم الأرض اليوم تنسب نفسها إلى المسيح عليه السلام يزعمون أنه هو اللَّه، ويزعمون أنه ابن اللَّه، ونسبوا للَّه صاحبة وولدًا، وقد برأ القرآن الكريم رب العزة عن ذلك بالأسلوب القوي، ثم نفى عن المسيح وأمه كل ذلك، وعرّف اللَّه الخلق بنفسه، وأنه ليس له صاحبة ولا ولد، ولا شريك له، فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّه وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء: 171].
وقال سبحانه: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ
أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17].
وبين القرآن الكريم خطأ من نسب للَّه الولد بيانـًا قويـًّا واضحـًا، فقال: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 4، 5].
وقال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم: 88- 94].
وقال في سورة «آل عمران»: {وإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 45- 51].
وسوس الشيطان للناس في كل عصر ليوقعهم في الشرك، حتى كان ذلك أيضًا في الأمة التي بُعث فيها خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، حتى قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، فكانوا يعبدون الأصنام، وما بعث إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا ليقول لهم: «قولوا: لا إله إلا اللَّه».
والسؤال الهام: لماذا اختار الشيطان الشرك ذنبًا مشتركًا يوقع الناس فيه ؟
والجواب أن الشيطان له هدف مبين في قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]، والشرك هو الذنب الذي يحقق للشيطان هدفه، وذلك لأن الشرك:
أولاً: ذنب لا يغفر ؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48].
ثانيًا: أن صاحب الشرك لا يستغفر منه ؛ لظنه أنه يُحسن صنعًا ؛ كقوله تعالى: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلأَ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ} [ص: 5- 7]، واللَّه سبحانه يقول: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّه رَسُولاً * إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 41، 42].
ثالثًا: أن الشرك يحبط سائر العمل ؛ لقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّه تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 64، 65]، ويقول سبحانه: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّه عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
رابعًا: أن الشرك أعظم الظلم، فإن زال ظلم الشرك زال كل ظلم دونه، ولا يزول من المظالم شيء إلا بزوال الشرك: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وقال سبحانه: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّه مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، ويقول تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة: 22].
فما هو الشرك الذي أوقع الشيطان فيه الأمم السابقة ؟
والجواب: أن المشركين لم ينسبوا لمعبوداتهم الخلق، ولا الرزق، ولا شيئًا من صفات الربوبية، إنما كان شركهم في عبادتهم من دون اللَّه، كان شركهم في العكوف عند الأصنام، ودعائها فيما لا يدعى فيه إلا اللَّه، وذلك هو ما يفعله كثير من الجهلة حول القبور اليوم: {فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [الأعراف: 138]، ويقول تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69- 74].
فالشرك في كل الأمم السابقة واللاحقة إنما هو العكوف عند القبور المنصوبة والتماثيل ودعائها من دون اللَّه، وهذا هو الظلم الأعظم الذي أرسل اللَّه الرسل للقضاء عليه ؛ وهو الظلم الذي إذا زال ؛ زال كل ظلم سواه ؛ لأن من عرف اللَّه ترك الشرك، ومن عرف اللَّه خافه واجتنب غضبه، فلم يظلم أحدًا.
هذا سبيل اللَّه الذي دعا إليه، وهو سبيل الأنبياء والرسل، فاحذروا السبل التي تزعم أنها تدعو للإسلام وأنها أقصر أو أنجع.
واللَّه من وراء القصد.
وكتبه/ محمد صفوت نور الدين