الحمدُ للَّهِ مُنطقِ البُلَغَاءِ باللُّغَى في البَوادي، ومُودِع اللسانِ أَلَسَنَ اللُّسُنِ الهَوَادي، باعثِ النبي الهادي، مُفحِمـًا باللسان الضَّادي كلَّ مُضَادي، مُفَخَّمـًا لا تشينه الهُجْنَةُ واللكْنَةُ والضَّوادي، صلى اللَّهُ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الدّادِي، وبُدُور القَوادي.
وبعد: فإنّ اللَّه تعالى أنزل القرآن عربيـًّا لا عُجْمة فيه ؛ بمعنى أنه جارٍ في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب، قال اللَّه عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3]. ومَن أحب اللَّه أحبَّ رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن أحبَّ النبي العربي أحبَّ العرب، ومَن أحبَّ العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضلُ الكتب على أفضل العَجَم والعَرَبِ.
ومعلوم أن تعلم العربية ؛ وتعليم العربية فرض على الكفاية ؛ وكان السلف يُؤدّبون أولادهم على اللحن، فنحن مـأمورون أمر إيجــاب أو أمــر استحباب أن نحفظ القانون العربي ؛ ونصلح الألسن المائلـة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو تُرك الناس على لحنهم كان نقصـًا وعيبـًا ؛ فكيف إذا جاء قومٌ إلى الألسنة العربية المستقيمة، والأوزان القويمة، فأفسدوها بمثل هذه المفردات والأوزان المفسدة للّسان، الناقلة عن العربية العرباء إلى أنواع الهذيان ؛ الذي لا يهذي به إلا قومٌ من الأعاجم الطماطم الصميان ؟!! وقد رُوي عن عمر، رضي اللَّه عنه، أنه قال: تعلّموا العربية ؛ فإنها تزيد في المروءة.
قال ابن فارس: وقد كان الناس قديمـًا يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أو يقرءونه اجتنابهم بعض الذنوب، فأمّا الآن فقد تجوزوا حتى إن المُحدّث يُحدّث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبِها قالا: ما ندري ما الإعراب، وإنما نحن محدثون وفقهاء، فهما يُسَرَّانِ بما يُساءُ به اللبيب.
ولا يخفى أن اللسان العربي شعارُ الإسلام وأهله، واللغاتُ من أعظم شعائر الأمم التي يتميزون بها.
فما أَجْدَرَ هذا اللسان بأنْ يُعتَنقَ ضَمًّا والتزامـًا، كالأَحِبَّةِ لدى التوديعِ، ويُكْرَمَ بنقل الخُطُواتِ على آثارهِ حالة التشييع.
وما أكثر ما يجري مِن العدوان على هذا اللسان ! الذي وَسِع الدين والقرآن.. مِن أولئك الذين يَهْرِفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يفعلون، فكثر اللَّحْنُ مِن الخواصِّ قبل العوامِّ، وطغت الهُجْنَةُ حتى ضجَّتَ الهوامُّ !! وسأضربُ مثالاً مِن هذا الرُّكام، وأزيح عنه اللِّثام: فما مِن كاتبٍ، ولا شاعرٍ، ولا خطيب، ولا أديبٍ – إلا مَن رحم ربي – إلا ويستخدم كلمة (بَسِيط) بمعنى: قليل، أو هَيِّن، أو يسير… إلخ ؛ فيقول: هذا شيء بسيط (بمعنى قليل)، ورجل بسيط (بمعنى مُغَّفل، أو طيب القلب).. وهذا الاستخدام غير صحيح ؛ فقد وردتْ مشتقات هذه الكلمة في خمس وعشرين آية، وجاءت على هذا النحو في القرآن الكريم: {بَسَطَ}، {بَسَطْتَ}، {تَبْسُطْها}، {يَبسطُ}، {فَيَبْسُطُهُ}، {يَبْسُطُوا}، {بَاسِط}، {بَاسِطُو}، {البَسْط}، {بِسَاطـًا}، {بَسْطَة}، {مَبْسُوطَتَان} ؛ وليس فيها كلها معنى قليل، أو هَيِّن، أو مُغّفل.. إلخ.
قال الفيروزآبادي: (بَسَطَهُ: نشره، وبَسَطَ يده: مَدَّهَا، و- فلانـًا: سَرَّه، و- المكانُ القومَ: وَسِعَهم، و – اللَّهُ فلانـًا عليَّ: فَضَّلَهُ، و – العُذْرَ: قَبِلَهُ. واللَّهُ يَبْسُطُ الرزقَ: يُوسِّعُه، والبِسَاطُ: ما بُسِطَ، والبَسِيطُ: المنبسط بلسانه، وأُذُن بَسْطَاء: عظيمة عريضة، وانْبَسَطَ النهارُ: امتدَّ وطال، والبَسْطَةُ: الفضيلة، والبَسْطَة في العلم: التوسُّع، وفي الجسم: الطول والكمال، والمَبْسَطُ: المُتَّسَعُ). اهـ.
هذا، وإنني قد بسطتُ الكلام في هذا المقال، للتنبيه وضرب المثال ؛ لصون اللسان عن الزلل في لغة القرآن، ودعوة لنبذ سقيم الكلام والأوزان، بعد أن (ازدادت المِحْنَةُ في هُجْنَةِ اللسانِ العربي، وطغت مولّدات التغريب على لغة القرآن، فَعَظُمَ العُدْوان على بنت عدنان، وندر الآخذون بالثأر الموقظون لأمتهم عن تغريب اللسان).
ورغم ذلك: فإن العلماء في لغة العرب – شكر اللَّه سعيهم – قد بذلوا جهودًا مكثفة في القديم والحديث، فانشئوا سدودًا منيعة وحصونـًا حصينة للغة القرآن عن عوادي الهُجْنة والدخيل، ويظهر ذلك في المجامع وهي كُثر، وفي كتب الملاحن وهي أكثر، فدبّ يراعهم، وسالتْ سوابق أقلامهم، وانتشرت سوابح أفكارهم في نقض الدخيل، ونفي المقرف والهجين، فحمى اللَّه سبحانه اللغة حماية لكتابه.
فهل إلى إصلاح لغتنا مِن سبيل ؟!
أفليس حرامـًا أن نهملها حتى يجهلها منا المتعلمون وأهل اللَّسَن والبيان ويلحنوا فيها ؟ أليس حرامـًا أن يكون فينا مِن الخوارج على لغتنا مَن ينصر العاميّة المسيخة أو يكتب بها ؟ أليس حرامـًا أن تسير على ألسنتنا مئات الألفاظ الأعجمية: الفرنسية، والإنكليزية ننطق بها تظرّفـًا أو تحذلقـًا، وعندنا عشرات الألفاظ التي ترادفها وتقوم مقامها ؟
فيا أيها العرب لغتكم، لغتكم يا أيها العرب ؛ تعلّموها وحافظوا عليها وانشروها.
فهل مِن ملبٍّ للنداء ؟! وهل مِن مجيب للدعاء ؟!
شادي السيد أحمد عبد اللَّه