الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فإن الإنسان بفطرته طبع على نفع أمواته – وخاصة بعد موتهم مباشرة – بما يظن أن هذا العمل ينفعهم في قبورهم وبعد بعثهم، ولما تفشت الأمية الدينية بين الناس، ساغ لكل أحد أن يفعل ما شاء من عبادات أو قربات، ظنًّا منه أن هذا نافع للميت لا محالة، ونسي هذا العامل أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما ورد في الصحيحين من حديث عائشة رضي اللَّه عنها أنه قال: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد».
فلا يجوز لأحد أن يتعبد اللَّه ويتقرب إليه إلا بما هو مشروع، ناهيك أن يهب ثواب هذا العمل لغيره من الأموات، فإذا كان هذا العمل غير مشروع، فهو مردود على صاحبه، ليس عليه أجر، بل عليه وزر، فكيف يهب ثواب هذا العمل المردود، بل لك أن تقول: وزر هذا العمل المردود (المبتدع) لميت له عزيز عليه، يريد نفعه بعد موته، بعد أن انقطع عمله ؟!
وهناك أعمال أخرى تنفع الميت بعد موته، ليست من فعل غيره، وإنما هي من فعله هو في حياته، فيجرى له ثوابها في حياته وبعد مماته.
ولهذا وذاك، أردت أن أكتب هذه الكلمات، أوضح من خلالها ما هي العبادات أو القربات، التي ينتفع بها الأموات، سواء كانت هذه العبادات أو القربات من كسبهم في حياتهم وقبل الممات، أو كانت من كسب غيرهم لينتفع بها هؤلاء الأموات بعد الممات، راجيًا أن يكون هذا تبعًا للمنهج الذي وضعه رب الأحياء والأموات، بعيدًا كل البعد عن البدع والخرافات، تقربًا إلى رب الأرض والسماوات، داعيًا المولى سبحانه القبول ورفع الدرجات.
وحيث إن الإنسان قبل موته، يستطيع أن يعمل بعض الأعمال التي يظل أجرها ساريًا بعد موته، قبل أن ينفعه غيره، بأعمال أخرى يعملها لهذا الميت بعد موته، وهذه الأعمال التي يمكنه عملها هو قبل موته، مستطاعة ومقدور عليها، وإن كلفته بعض الجهد أو الوقت أو المال، فهي في مقدوره غير الأعمال الأخرى التي يقوم بها غيره له من بعده، فهي ليست بيده، فربما تكون أو لا تكون، لذلك أحببت أن أبدأ بهذه الأعمال التي هي من كسبه وليست من كسب غيره حتى يبادر كل إنسان بها قبل موته، رغبة في نفع نفسه، لا ركونًا إلى نفع غير له بعد موته.
l أولاً: العبادات والقربات النافعة للأموات من كسبهم:
1 – الصدقة الجارية.
2- العلم الذي ينتفع به.
3- الولد الصالح الذي يدعو له.
ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له». رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.
وفي رواية عند ابن ماجه: عن أبي قتادة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «خير ما يُخلِّفُ الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجرى يبلغه أجرها، وعلم يُعمل به من بعده».
وفي أخرى لابن ماجه والبيهقي: عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا عَلَّمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، أو مصحفًا ورثَّـــه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته».
1- الصدقة الجارية:
والصدقة الجارية: في المذاهب الأربعة هي العطية التي تبتغى بها المثوبة من اللَّه.
وقيل: هي التطوع بتمليك العين بغير عوض، وقيل: هي المال الذي وهب لأجل الثواب، وقيل: هي الوقف، والوقف هو ما يحبس في سبيل اللَّه.
من هذا وغيره يتضح أن الصدقة الجارية قربة يفعلها الإنسان لوجه اللَّه، تقربًا إلى اللَّه، ولينتفع بها الناس فترة زمنية، فيجرى له أجرها فترة بقائها.
ومن النماذج التي فعلت على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للصدقة الجارية، حديقة النخل التي تصدق بها أبو طلحة عندما نزل قول المولى سبحانه وتعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، كما ورد في الحديث المتفق عليه.
والحائط التي تصدق بها بنو النجار لبناء مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة.
وبئر رومة التي اشتراها عثمان رضي اللَّه عنه وتصدق بها عندما عز الماء علــى المسلمين.
وما تصدق به عمر رضي اللَّه عنه من مال نفيس عنده يُقال له ثَمغٌ، تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره صدقة في سبيل اللَّه وفي الرقاب والمساكين والضيف وابن السبيل ولذي القربى.
ومن الأحاديث الواردة في الصدقة الجارية ما رواه البخاري ومسلم عن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه قال: إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «من بني مسجدًا يبتغي به وجه اللَّه بنى اللَّه له بيتًا في الجنة».
وفي رواية للترمذي عن أنس بن مالك: «من بنى مسجدًا صغيرًا كان أو كبيرًا، بنى اللَّه له بيتًا في الجنة». وفي رواية لابن ماجه عن جابر: «من بنى للَّه مسجدًا، ولو كمفحص قطاةٍ أو أصغر، بنى اللَّه له بيتًا في الجنة».
2- علم يُنتفع به:
إن مما ينفع الميت بعد موته العلم الذي تركه ليعمل به وينتفع به سواء علمه لأحد أو تركه في كتاب يتعلم الناس من خلاله بعد موته ؛ لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم – من حديث أبي هريرة -: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علَّمه ونشره..».
وروى ابن ماجه عن معاذ بن أنس عن أبيه رضي اللَّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من علم علمًا فله أجر من عمل به، لا ينقص من أجر العامل شيء».
وروى البزار عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «مُعلم الخير يستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في البحر».
روى مسلم على أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا».
3- الولد الصالح الذي يدعو له:
الأبناء من سعي الآباء، وما يفعله الأبناء من أعمال صالحة، يكون للآباء مثل الأجر لهذا العمل، دون نقص من أجور الأبناء شيئًا.
روى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم».
وقد نص الحديث على تخصيص الولد بالصالح، ومعلوم قرب الولد الصالح من غيره من اللَّه سبحانه وتعالى، ولذلك ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، حيث إنه دائم الذكر دائم الصلة باللَّه، فلن ينسى والديه بالدعاء بعد موتهما، أضف إلى ذلك أن الابن الصالح الذي اعتاد على فعل الصالحات في حياة والديه، وقد تعلم ذلك منهما، فلوالديه أجر هذه الأعمال الصالحة دون نقصان في أجر هذا الابن الصالح.
وطريق صلاح الأبناء طريق طويل من الآباء، يبدأ هذا الطريق باختيار الزوجة الصالحة لتكون أمًّا بعد ذلك لهذا الابن الصالح، مارًّا بطريق التربية الصحيحة التي بينها لنا الشرع، ووصولاً بهذا الابن إلى الصلاح حتى بعد موت أبويه.
مع ملاحظة أن صلاح الآباء يحفظ الأبناء بعد ممات الآباء، كما قال تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}.
قال عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس: ما من مؤمن يموت إلا حفظه اللَّه في عقبه وعقب عقبه.
وقال ابن المنكدر: إن اللَّه ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده.
4- الرباط في سبيل اللَّه:
روى مسلم والترمذي والنسائي عن سلمان رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «رباطُ يومٍ وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتَّان».
وروى أبو داود والترمذي عن فضالة بن عبيد رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل اللَّه، فإنه يُنمى له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتنة القبر».
قال الإمام النووي تعليقًا على حديث مسلم: هذه فضيلة ظاهرة للمرابط، وجريان عمله عليه بعد موته فضيلة مختصة به لا يشاركه فيها أحد، وقد جاء صريحًا في غير مسلم: كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة. وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأجري عليه رزقه» موافق لقوله تعالى في الشهداء: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
5- من حفر قبرًا لدفن مسلم:
عن أبي رافع رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «من غسل ميتًا فكتم عليه غُفر له أربعين مرة، ومن كفن ميتًا كساه اللَّه من السندس وإستبرق الجنة، ومن حفر لميت قبرًا فأجنه فيه أُجري له من الأجر كأجر مسكن أسكنه إلى يوم القيامة». رواه البيهقي والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
وفي رواية للطبراني عن أبي رافع قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «من غسل ميتًا فكتم عليه غفر اللَّه له أربعين كبيرة، ومن حفر لأخيه قبرًا حتى يجنه فكأنما أسكنه سكنًا حتى يبعث». قال الهيثمي: رواه الطبراني في «الكبير» ورجاله رجال الصحيح.
6- إذا أكل إنسان أو حيوان أو طائر من غرس وزرع لميت:
روى مسلم عن جابر رضي اللَّه عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم معبد حائطًا فقال: «يا أم معبد، من غرس هذا النخل أمسلم أم كافر ؟» فقالت: بل مسلم، قال: «فلا يغرس المسلم غرسًا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة».
وفي رواية: «ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير منه فهو له صدقة، ولا يرزؤه (ينقص ويأخذ منه) أحد إلا كان له صدقة».
وقال النووي تعليقًا على هذا الحديث:
في هذه الأحاديث فضيلة الغرس وفضيلة الزرع وأن أجر فاعل ذلك مستمر ما دام الغراس والزرع وما تولد منه إلى يوم القيامة. اهـ.
وهذا يختلف عن الصدقة الجارية في أن الزرع أو الغرس ما قصد به أنه صدقة جارية، ولكن أُكِل منه دون رغبة من صاحبه أو وارثه. واللَّه أعلم.
7- إذا سن قبل موته سنة حسنة:
إذا أثيب المسلم على عمل من الأعمال كان لمن علّمه هذا العمل أجر مماثل دون أن ينقص من أجر العامل شيء، وكان لمعلمه الأول وهو المصطفى صلى الله عليه وسلم جميع ذلك.
روى ابن ماجه عن أبي جحيفة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سن سنة حسنة عُمل بها بعده، كان له أجره، ومثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة، فعمل بها بعده، كان عليه وزرها، ومثل أوزارهم، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
وروى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من نفس تُقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأوَّلِ كفلٌ من دمها لأنه كان أول من سن القتل».
وروى مسلم عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله».
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا».
قال الإمام النووي: هذان الحديثان صريحان في الحث على استحباب سن الأمور الحسنة وتحريم سن الأمور السيئة وأن من سن سنة حسنة كان له مثل أجر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، وأن من دعا إلى هدى كان له مثل أجور متابعيه، وأيضًا من دعا إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه، سواء كان ذلك الهدى أو الضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقًا إليه، وسواء كان ذلك تعليم علم أو عبادة أو آداب أو غير ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فعُمل بها بعده» معناه: أنه سنها، سواء كان العمل بها في حياته أو بعد موته. واللَّه أعلم. اهـ.
وللحديث بقية فيما ينتفع الميت به بعد موته ؛ من كسب غيره.
واللَّه من وراء القصد.
بقلم: محمود غريب الشربيني