أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا قعودًا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا ففزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطًا للأنصار لبني النجار، فدرت به هل أجد له بابًا، فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجه، (والربيع: الجدول)، فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أبو هريرة؟» فقلت: نعم يا رسول الله، قال: «ما شأنك؟» قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا، فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب وهؤلاء الناس من ورائي، فقال: «يا أبا هريرة» (وأعطاني نعليه) قال: «اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستقينًا بها قلبه فبشره بالجنة»، فكان أول من لقيت عمر، فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما مَنْ لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستقينا بها قلبه بَشَّرته بالجنة، فضرب عمر بيده في ثديي، فخررت لاستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة، فرجعت إلى رسول الله، فأجهشت بكاء، وركبني عمر، فإذا هو على أثري، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لك يا أبا هريرة؟» قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثنني به فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي، قال: ارجع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمر ما حملك على ما فعلت؟» قال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك، من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشره بالجنة ؟ قال: «نعم». قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلِّهم يعملون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فخلهم».
التوكل والتواكل:
الأخذ بالأسباب مع تفويض أمر النتائج لله تعالى ثقة به مع عدم الركون لتلك الأسباب ثقة بالله عز وجل وإيمانًا به سبحانه وأنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ذلك هو التوكل المأمور به ؛ كقوله تعالى: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران: 195]، وقوله: { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } [النساء: 81]، وقوله: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [المائدة: 18]، وقوله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } [الأحزاب: 48]، وقوله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3]، وغير ذلك في القرآن كثير.
أما التواكل فهو الامتناع عن العمل اعتمادًا على ما يتبادر من ظاهر الوعد وهو الذي حذر منه الشرع ومنع منه كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما قال: أفلا أبشر الناس ؟ قال: «لا تبشرهم فيتكلوا». وهو الذي خاف منه عمر بن الخطاب وأقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة لما بعثه يبشر بالجنة من لقيه يشهد أن لا إله إلا الله، فقال عمر: أخشى أن يتكل الناس، فوافقه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «خلهم يعملون».
الفهم العمري:
ليس فعل عمر اعتراضًا على قول النبي صلى الله عليه وسلم أو تعديلاً له وإنما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة يبشر من لقيه، وهذا خاص بأقوام يظهر من قصة الحديث أنهم جماعة من خاصة أصحابه، الذين كانوا معه وخرج من بينهم وتركهم، فخشي عمر أن يظن الناس أن ذلك من الأمر العام.
وفي الحديث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دفع في صدر أبي هريرة دفعة أوقعته على الأرض وتأذى بها، وأنه أرجع أبا هريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يفهم من ذلك أنه رد على النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وذلك خطأ.
فإن عمر بن الخطاب ما فهم الشرع أصوله وفروعه إلا من النبي صلى الله عليه وسلم وملازمته له، فإذا وجد أمرًا جاء من غيره، يخالف ما تعلمه منه جاء الاستفسار منه عن ذلك الذي يظنه بعض من اطلع عليه ولا يعرف حال القوم أنه من قبيل الاعتراض، فالراجح أن عمر رضي الله عنه فهم خطورة الاتكال على مثل ذلك الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم، كما وقع ذلك في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، فلما رأى أبا هريرة رضي الله عنه يخرج ومعه نعلا النبي صلى الله عليه وسلم ليبشر الناس خاف من الاتكال، فدفعه ذلك أن يرد أبا هريرة، فوقع الدفع منه شديدًا، كما وقع من موسى عليه السلام لما وكز القبطي لا يريد قتله إنما يريد إبعاده عن العدوان فمات، وكما رأى موسى عليه السلام القوم يعبدون العجل فألقى الألواح وفي نسختها هدًى ونور، فما قصد عمر إيذاء أبي هريرة، ولكن قصد دفع الاتكال عن الأمة لتبقى عاملة بالطاعات رغبة في الجنة وخوفًا من النار.
ولكن هل يقترح عمر تصويبًا أو تعديلاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ؟ الجواب:
أ- أنه لما تعارض الأمر العام من الخوف من الاتكال بالأمر الخاص بتبشير أفراد معينين بما يوهم الناس الاتكال، والكثير منهم ميزانه يحتاج إلى الحسنات ليدخل الجنة فإذا لم يجتهد في تحصيلها خفت موازينه فهوى في النار، لكن الذين أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أبا هريرة مبشرًا يعلم أنهم من أهل الجنة، وخاف عمر عليهم الاتكال، فتنقص منزلتهم في الجنة، ورغب عمر في تركهم يعملون لتزداد الدرجة عند الله رب العالمين.
فكأن خوف عمر الذي أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين:
أحدهما: اتكال المقصودين بتبشير أبي هريرة لهم، فمع أنهم من أهل الجنة إلا أن الاتكال ينقص من درجتهم ويؤثر في منزلتهم فيها.
وثانيهما: قد يظن آحاد الأمة من غير المخصوصين بتلك البشارة أنه داخل في هؤلاء فيتكل على هذا الوعد ويترك العمل، فلا ينجو من النار، فيخسر.
ب- قد يظن ظان أن ذلك يمكن أن يحدث من آحاد الناس كما حدث من عمر رضي الله عنه جواز اقتراح التعديل على مسائل الشرع، ولكن ذلك إنما وقع قبل نزول قول الله عز وجل: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3] التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بتسعين يومًا، فلا يجوز لأحد أن يظن إباحة ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكمال الشرع يلزم كل الناس اتباعه كما جاء إلى قيام الساعة، فرب العالمين أعلم بخلقه وشرعه.
من مسائل الحديث:
ومن مسائل الحديث أن أبا هريرة ذكر اللفظ الصريح (فخررت لاستي)، والألفاظ النبوية الشريفة والتي تأثر بها الصحابة حملت العفة ولزمت الفضيلة والحسن الرقيق والمنطق الرفيع، فلم تأت بمثل تلك الألفاظ التي تخدش الحياء إلا في مواقف قليلة حتى صارت العفة هي السمة الدائمة للمسلمين في كتاباتهم وخطبهم وأقوالهم، ولكن هذه شكوى مألوم يتظلم للنبي صلى الله عليه وسلم مما وقع به، فكان ذكره لذلك اللفظ من المبالغة في الشكاية، وإن المربين وعلماء الإسلام تأثروا بهذه الفضائل تأثرًا بالغًا، حتى أن أساتذة اللغة العربية ذكروا الأسماء الستة: (أبو – حمو – أخو – ذو – فو – هن) حذفوا الاسم السادس منها ؛ لأنه اسم من أسماء الفرج حتى صارت معروفة باسم: الأسماء الخمسة عند الدارسين للنحو، مع أنه ورد في حديث شريف: «من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه(1) بهن أبيه ولا تكنى».
ويقول النووي في ذلك: أما قوله: لاستي. فهو اسم من أسماء الدبر، والمستحب في مثل هذا الكناية عن قبيح الأسماء، واستعمال المجاز والألفاظ التي يحصل بها الغرض، ولا يكون في صورتها ما يستحيا من التصريح بحقيقة لفظه، وبهذا الأدب جاء القرآن العزيز والسنة كقوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ }، { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ }، { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ }، { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ }، وقد يستعملون صريح الاسم لمصلحة راجحة، من إزالة اللبس أو الاشتراك أو نفي المجاز أو نحو ذلك، كقوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } [النور: 2]، وكقوله صلى الله عليه وسلم: «أدبر الشيطان وله ضراط»، وكقول أبي هريرة، رضي الله عنه عن الحدث فساء أو ضراط، ونظائر ذلك كثيرة، واستعمال أبي هريرة هنا لفظ الاست من هذا القبيل، والله أعلم.
هذا، وإن كانت الأحاديث قد صحت في تلك البشارة بالجنة لمن شهد بالحق كحديث مسلم عن عتبان بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فيدخل الجنة» ؛ لأن الشهادة نطق اللسان بما استقر من الاعتقاد الصحيح في قلبه، والناس تفهم منها مجرد نطق اللسان، ونفي دخول النار ليس نفيًا لعذابها مطلقًا بالضرورة، وإنما قد يكون نفيًا للخلود فيها، حيث يكون من أهل الشفاعة، وكفى بالدخول إلى النار عذابًا مهما كان المكث قليلاً لشدة عذاب النار عذابًا ينسي كل نعيم دنيوي.
وفي رواية: «فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله».
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها وأغفر، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا لقيته بمثلها مغفرة».
وعن جابر رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان ؟ فقال: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك به شيئًا دخل النار».
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبرائيل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق ؟ قال: «وإن زنى وإن سرق».
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار»، وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبر».
وأخرج مسلم عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة».
ومن حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة».
وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق وأن النار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء». وفي رواية: «أدخله الله الجنة على ما كان من العمل».
وعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله حرم الله عليه النار».
وعن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار». قال: يا رسول الله، أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا، قال: «إذن يتكلوا».
وأخرج مسلم عن أنس بن مالك في شأن الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام فأخبره بالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج، ثم ولى الرجل فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لئن صدق ليدخلن الجنة».
وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا علمته دخلت الجنة قال: «تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان»، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئًا أبدًا ولا أنقص منه، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا».
وعن جابر رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم النعمان بن قوقل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن صليت المكتوبة وحرمت الحرام وأحللت الحلال، أأدخل الجنة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم».
اليهود والتواكل:
والتواكل يقع في أمر الدنيا، وهو أظهر، ويقع في أمور الآخرة وهو أشد وأخطر، واليهود ومن شابههم هم أشد الناس تمسكًا بالدنيا فلا يتوكلون على الله فيها، وأشد الناس تواكلاً في أمر الآخرة فلا يعملون لها.
حكى القرآن الكريم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18]، وقال سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وقال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169].
التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب:
وترك الأسباب اعتمادًا على الوعد تواكل وهو مذموم، وقد استفاضت نصوص القرآن والسنة على أن التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب، فمنه ما أخرجه الترمذي بسند حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتواكل أو أطلقها وأتوكل، قال: «اعقلها وتوكل».
ومنه قوله تعالى: { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [الملك: 15]، وقال تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } [الأنفال: 60].
وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أسامة بن شريك قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كأنما على رءوسهم الطير، فسلمت ثم قعدت، فجاء الأعراب من هاهنا وهاهنا، فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى ؟ فقال: «تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم».
وأخرج الترمذي وأحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا».
وأخرج البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة». فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فقال: «اعملوا فكل ميسر، فمن كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة». ثم قرأ: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } [الليل: 5].
النبي صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله لا يتكل على الوعد، ولكن يواظب على العمل:
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل قاعدًا قط، حتى أسن، فكان يقرأ قاعدًا حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوًا من ثلاثين آية أو أربعين آية، ثم ركع.
وأخرجا عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه، فيقال له فيقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا».
وأخرجا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء، قلنا: ما هممت به ؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجا عن علقمة قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختص من الأيام شيئًا ؟ قالت: لا، كان عمله ديمة وأيكم يطيق ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيقه؟
وأخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئًا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليًا إلا رأيته ولا نائمًا إلا رأيته.
وقد حث أصحابه ودعا أقاربه للعمل، ولا يعتمدون على نسب ولا صهر.
أخرج البخاري عن علقمة قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعًا، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم عجبوا من سرعته، فقال: «ذكرت شيئًا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته».
قال ابن حجر: «يحبسني»: أي يشغلني التفكر فيه عن التوجه والإقبال على الله تعالى، وفهم منه ابن بطال معنى آخر، فقال: فيه أن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة.
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كخ كخ»، ليطرحها. ثم قال: «ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة». وقال: «إنا لا تحل لنا الصدقة». وفي رواية: فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجها من فيه فقال: «أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة».
والحسن يومئذ طفل صغير غير مميز، لكن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بغير مكلف ليتدرب على ذلك وفيه التنزه عن اليسير من الحرام حتى لغير المكلفين.
من صور الاتكال:
الاتكال على الأنساب:
قال سبحانه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 101-104].
وقال سبحانه: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} [المعارج: 10 – 14].
ويقول سبحانه: { الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67].
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عز وجل: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } قال: «يا معشر قريش – أو كلمة نحوها -: اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا».
وفي رواية مسلم: «أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا». فالأنساب لا تنفع دون العمل ؛ لقوله تعالى: { يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ }.
ويقول سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}.
ويقول جل ذكره: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 45، 46].
الاتكال بظن أن عطاء الدنيا دليل محبة الله:
قال تعالى على لسان ذلك المغرور في سورة الكهف: { وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } [الكهف: 36]، ظنًّا منه أن الله لا يعطي الدنيا إلا لمن أحبه، ولم يعلم أن الدنيا عند الله أهون من الجيفة على الناس.
ومنه اغترار فرعون بعطاء الله وطول السلامة، فأورده ذلك المهالك، حتى أخذه الله بغتة، ثم يوم القيامة يرده إلى أشد العذاب.
أخرج أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج». ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ }.
قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33 – 35].
وقال تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [آل عمران: 196-198].
وقال سبحانه: { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة: 55].
الاتكال على الوعد بالشفاعة:
أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء على رقبته فرس له حمحمة، يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله أغنثي، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، وعلى رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، أو على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك».
ومثل المنهمك في الذنوب اعتمادًا على رجاء الشفاعة كمثل المريض المنهمك في ما يزيد مرضه اعتمادًا على طبيبه الحاذق المشفق، وذلك جهل وغرور.
فترى الكثير يصيبهم الفتور، بل يتجرءون على المعاصي اعتمادًا على وعد الشفاعة، وهذا مما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، أن تعتمد عليه الأمة فيقع بهم كما وقع باليهود والنصارى بسبب الغرور بالوعد، فاغترت اليهود بأنهم شعب الله المختار فاستباحوا كل حرام، وقالوا: { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } [آل عمران: 75]، فإن الله حرم أكل أموال الناس إلا بحقها.
ولقد ذكر ابن كثير حديث عبد الرزاق أن رجلاً سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الكتاب الدجاجة والشاة، قال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال: نقول: ليس علينا بذلك بأس، قال: هذا كما قال أهل الكتاب: { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ }، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم.
وفي البخاري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه».
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس ؟» قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فطرح عليهم ثم طرح في النار».
وأخرج الترمذي عنه مرفوعًا: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى تقاد الشاة الجلحاء من الشاة القرناء».
قال تعالى: { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } [الأعراف: 169].
قرب الجنة والنار:
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك».
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم».
حديثنا هذا أحد الأحاديث التي يسيء الناس فهمها فيتكلون عليها تاركين العمل، بل واقعين في المعاصي والسيئات، ناسين الوعيد الشديد من رب العالمين، غافلين أن مصير الناس يوم القيامة جميعًا هو ورود النار، ثم ينجي الله الذين اتقوا، فكيف ينجو من لم يتق ربه بتجنب المعصية وفعل الطاعة؟
والله الهادي إلى الصراط المستقيم.
كتبه / محمد صفوت نور الدين