الأثنين 2 جمادى الأولى 1446 4-11-2024

رئيس التحرير
مصطفي خليل أبو المعاطي

الأثنين 2 جمادى الأولى 1446 4-11-2024

باب التفسير(سورة النجم)

أحدث الأخبار

شيخ الأزهر يرد على الإساءة للرسول الكريم

استنكر شيخ الأزهر أحمد الطيب الرسوم المسيئة التي أعادت نشرها صحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية الساخرة، ووصفها بأنها “جريمة في حق الإنسانية”. وقال الطيب -في منشورات...

انحراف البشرية عن التوحيد وأسبابه

د. عبد الله شاكر الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، والصلاة والسلام على من أرسله...

ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق

  إعداد: مصطفى البصراتي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعدُ: ففي هذا العدد نتكلم عن مثل من الأمثال الموجودة...

مقالات متنوعة

حمـاية أبنـاء المـوحديـن

الحمد للَّه الواحد الأحد، الذي لم يَلد، ولم يُولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي بعث الرسل مبشرين...

باب التفسير(سورة النجم)

الحلقة الثالثة {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ...

القصة في كتاب الله (4)(خروج موسى عليه السلام  إلـى مدين)

الحمد للَّه الذي يتولى عباده الصالحين برحمته ويخرجهم من الظلمات إلى النور، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة وهداية للناس كافة. وبعد: أولاً: يقول تعالى: {وَجَاء...

الحلقة الثالثة

{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم: 26 – 41].

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقد وقفنا في العدد الماضي حول تفسير قوله تعالى: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى }، وأوردنا حديث الشفاعة الطويل، ونكمل حديثنا حول آيات سورة «النجم»، فنقول وبالله تعالى التوفيق:

فانظروا – رحمكم الله – لما قالوا: يا محمد، اشفع لنا إلى ربك، لم يملك النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ينطلق فيخرَّ تحت العرش ساجدًا، فلا يرفع رأسه، ولا يتكلم بشيء مما أراد، حتى يأذن الله له، فيقول: «يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع».

إذن من الخطأ أن تعتقد أن أحدًا يستطيع أن يشفع عند الله من غير أن يأذن الله، سواء كان ملكًا مقربًا، أو نبيًّا مرسلًا، أو وليًّا صالحًا، أو شهيدًا بذل روحه ومهجته في سبيل الله، ومن الخطأ أن تقول: يا رسول الله، اشفع لي عند ربك ؛ لأنك بذلك تسأله ما لا يملك، هل الرسول صلى الله عليه وسلم يملك الشفاعة ؟ لا، كيف والله يقول: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [الزمر: 44]، فما دام الله وحده هو الذي يملك الشفاعة، فلا تقل: يا رسول الله اشفع لي، ولكن قل: «اللهم شفع في نبيك». فتسأل الله لأنه الذي يملك الشفاعة، فإذا سألت الله أن يشفع فيك نبيه، أذن الله لنبيه يوم القيامة أن يشفع فيك فيشفعه الله فيك.

ما هي الوسيلة إلى شفاعة صاحب الوسيلة ؟ كيف يتحصل المسلم على شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

أولاً: قال صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة». [صحيح، رواه مسلم (384/288/1)، وأبو داود (519/225)، والترمذي (3694/247/5)، والنسائي (25/2)].

ثانيًا: قال صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليَّ حين يصبح عشرًا، وحين يمسي عشرًا، أدركته شفاعتي يوم القيامة». نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفع فينا نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم.

ومرة ثانية يعيب الله على المشركين نسبتهم له البنات فيقول سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى }، وعدم الإيمان بالآخرة هو سبب كل كفر، وسبب كل ضلال، وسبب كل معصية، إنسان لا يؤمن بيوم الدين، لا يؤمن بأنه مجزي بعمله، فما الذي يردعه عن الحرام ؟ ما الذي يردعه عن الظلم ؟ ما الذي يردعه عن الكفر ؟ ولذا قال تعالى: { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ } [الماعون: 1، 2]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ } [الانفطار: 6 – 9].

{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، فهم حين جعلوا الملائكة بنات الله لم يستندوا في ذلك إلى حجة، ولم يركنوا إلى برهان، { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ }، والظن أكذب الحديث، كما قال صلى الله عليه وسلم. { وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا }.

ثم أمر الله نبيه بالإعراض عنهم وعدم الالتفات إليهم، قال تعالى: { فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ }، فالدنيا أكبر همهم، وهم لا يعلمون إلا هذا القدر من علوم الدنيا، والذي لا ينفعهم شيئًا، كما قال تعالى: { وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [الروم: 6، 7]، فنفى عنهم علمًا وأثبت لهم آخر، نفى علم الآخرة، الذي هو علم الشريعة، علم التوحيد، علم الإسلام والإيمان والإحسان، وأثبت لهم علم الحياة الدنيا، وليس كله، بل ظاهره فقط، { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ }، ومع ذلك كانوا يزعمون أنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً، فقال الله لنبيه: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى }، كما قال له: { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [القلم: 5 – 7]، { يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } [الممتحنة: 3]، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } [الشعراء: 227].

{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } لله سبحانه وتعالى هذا الملك كله، علويه وسفليه، السماوات السبع وما فيهن، والأرضون السبع وما فيهن، وما بين ذلك، كما قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } [طه: 5، 6]، فهذا الكون كله ملك لله سبحانه وتعالى، ولا ينازعه في ملكيته أحد، ويوم القيامة «يطوي الله السماوات بيمينه، ويأخذ الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ لمن الملك اليوم ؟ لله الواحد القهار». { أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالأُولَى } [النجم: 24، 25]، { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُولَى } [الليل: 12، 13]، وهو سبحانه يتصرف في ملكه كيف يشاء، فيجزي الظالمين بعدْله، ويعامل المحسنين بفضله، { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا }، { جَزَاءً وِفَاقًا } [النبأ: 26]، { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: 49]، { وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى}، وهذه الآية فسرتها آيات، منها قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا (24) إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 21- 36]، ليس { جَزَاءً وِفَاقًا } كما قال تعالى في حق أهل النار، وإنما { جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا }، فالله تبارك وتعالى يجزي الذين أساءوا بعدله، ويجزي الذين أحسنوا بفضله وكرمه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدكم عمله الجنة». قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل». [متفق عليه].

ثم وصف الله تعالى الذين أحسنوا بقوله: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ }، من المعلوم أن الذنوب قسمان: كبائر، وصغائر، وقد اختلف العلماء في تعريف الكبيرة وعدد الكبائر، وأرجح أقوالهم في تعريف الكبيرة: أنها ما ترتب عليه عقوبة في الدنيا أو في الآخرة، فعقوبة الدنيا الحدود، وعقوبة الآخرة: غضب الله، لعنة الله، والعذاب الأليم، فكل ذنب ترتب عليه حدّ في الدنيا، أو توعد فاعله في الآخرة بالعذاب، بغضب الله، بلعنة الله، فهو من الكبائر، وما لم يترتب عليه حدّ في الدنيا، ولا وعيد في الآخرة فهو من الصغائر، وأما عدد الكبائر فقد قال بعض السلف: إنها السبع الموبقات المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات». قالوا: وما هن يا رسول الله ؟ قال: «الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والزنا، وأكل الربا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف». [متفق عليه].

لكن قال ابن عباس: إنها – أي الكبائر – إلى السبعين أقرب، والمهم تعريف الكبيرة وليس عددها.

فالله سبحانه برحمته تفضل على الذين يجتنبون الكبائر بمغفرة الصغائر، فقال تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ }، وللعلماء في تفسير (اللمم) قولان:

الأول: اللمم: الصغائر، فاجتناب الكبائر من أسباب تكفير الصغائر، وبذلك صرح الرب سبحانه في قوله: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا } [النساء: 31].

الثاني: اللمم: ما يلم به الإنسان من الكبائر، ثم يتوب فيتوب الله عليه، وهذا كما قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133-136].

وقوله تعالى: { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ }، إن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علمًا، ومن علمه أن يعلم المصلح من المفسد، ويعلم البر من الفاجر، وليس بحاجة إلى أن يعرّف الإنسان بنفسه، أو يعرفه بغيره، فـ { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ }، وما دام كذلك { فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ }، ولمَ يمدح الإنسان نفسه ! لِمَ يزكيها ؟ لِمَ يشهد لها بالبر والتقوى ! { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا } [النساء: 49، 50]، { فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }، التقوى أين محلها ؟ النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير إلى صدره ويقول: «التقوى هاهنا، التقوى هاهنا»، ويشير إلى صدره صلى الله عليه وسلم، وما في الصدر لا يعلمه إلا الله، { فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره الأسماء التي فيها تزكية للنفس، وكان يغيرها، فزينب كان يقال لها: برة، فقال صلى الله عليه وسلم: «تزكي نفسها»، فقالوا: ما نسميها يا رسول الله ؟ قال: «سموها زينب». [متفق عليه].

ونهانا صلى الله عليه وسلم عن مدح الغير والثناء عليه من غير حاجة، وعلمنا كيف يكون المدح عند الحاجة، فعن عبد الرحمن بن أبي بَكْرَة عن أبيه قال: أثنى رجلٌ على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ويلك، قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك: (مرارًا)، ثم قال: «من كان منكم مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانًا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه». [متفق عليه].

{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى } عن طاعة الله، وأعرض عن الهدى بعد إذ جاءه، واستحب العمى على الهدى: { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى } [القيامة: 31- 33]، { وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى }، قال ابن عباس: أطاع قليلاً ثم قطعه، وقال عكرمة: كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئرًا فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل، فيقولون: أكْدينا، ويتركون العمل.

يقول الله تعالى: { أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } ؟ أي: عند هذا الذي أمسك يده خشية الإنفاق وقطع معروفه، أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده حتى قد أمسك عن معروفه، فهو يرى ذلك عيانًا ؟ أي: ليس الأمر كذلك ؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة بُخلا وشحًّا وهلعًا.

{ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } ألم يقرأ هو بنفسه، أو يخبره غيره عما في صحف إبراهيم وموسى { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } لا يؤخذ إنسانٌ بجريرة غيره، وهذا من عدل الله تبارك وتعالى، لا يؤاخذ والدًا بذنب ولده، ولا ولدًا بذنب والده، ولا صديقًا بذنب صديقه، لا تحمل نفسٌ وزر أخرى، { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [فاطر: 18]، ولو كان المدعو للحمل ذا قرابة قريبة.

وهنا إشكال: هنا يقول الله تعالى: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ويقول في موضع آخر: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت: 13]، فكيف يزال هذا الإشكال؟

الجواب: أنه { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } إلا إذا كانت تسببت في وزر الأخرى، بأن دعتها إليه، وزينته له، أو عاونتها عليه، فحينئذ تحمل وزرها ووزر غيرها من غير أن ينقص من وزر الأخرى شيء، كما صرح بذلك ربنا سبحانه في قوله: { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل: 25]، فوزر الغير من كسبهم، فهم يحملونه فوق أوزارهم، ولا ينقص من أوزار الذين يضلونهم شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فلها أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة». [صحيح. رواه مسلم (7/10)].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفلٌ من دمها ؛ لأنه كان أول من سن القتل». [متفق عليه].

{ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى }، فأدّى لله كل ما أمره به، واستقام على شرعه: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } كما لا تزر وازرة وزر أخرى، لا ينفع نفسًا إيمان غيرها، وإنما { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت: 46]، { فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } [يونس: 108].

وقد استنبط الإمام الشافعي، رضي الله عنه، من قوله تعالى: { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى }، أن إهداء ثواب قراءة القرآن للأموات لا ينفعهم ؛ لأنه ليس من سعيهم، وقال: إن باب القربات يقتصر فيه على ما أذن فيه الشارع، ولا يستخدم فيه القياس، فإذا قرأ رجل القرآن ثم قال: اللهم إني وهبت ثواب ما قرأت لفلان من الناس، لم ينتفع فلان بشيء ؛ لأنه ليس من سعيه.

لكن هناك بشرى لا بد من تبشير المسلمين بها ؛ لأن جهلهم بها هو الذي أوقعهم في محدثة إهداء ثواب القرآن للأموات، وهذه البشرى هي أنه ما من ولد صالح يقرأ القرآن يتعبد بقراءته، ويبتغي بذلك الأجر الذي وعد الله به قارئ القرآن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». فإذا قرأ الولد القرآن فأعطاه الله – مثلاً – ألف حسنة كتب الله لأبيه ألف حسنة، ولأمه مثل ذلك، من غير أن يهدي أو يهب، وهذا عام في كل عمل صالح يعمله الولد ؛ لأنه من سعي أبيه، والله يقول: { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى }.

وقوله تعالى: { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } يراه الله ورسوله والمؤمنون، كما قال تعالى: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } [التوبة: 105]، قال العلماء: وفي هذه الآية بشارة للصالحين، وإنذار لغيرهم، يأيها الصالح أبشر، فإن الله سيرفع ذكرك، وينشر محاسنك على رءوس الخلائق يوم القيامة، ويأيها الفاجر أقلع، فإن عيوبك المستورة ستنشر يوم القيامة: { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [الطلاق: 9]، ويا لها من فضيحة، نسأل الله أن يستر عيوبنا.

وقوله تعالى: { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى } أي: الأوفر، ومن غير ظلم ولا عدوان.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.

بقلم الدكتور: عبد العظيم بدوي

أخبار متعلقة

شيخ الأزهر يرد على الإساءة للرسول الكريم

استنكر شيخ الأزهر أحمد الطيب الرسوم المسيئة التي أعادت نشرها صحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية الساخرة، ووصفها بأنها “جريمة في حق الإنسانية”. وقال الطيب -في منشورات...

انحراف البشرية عن التوحيد وأسبابه

د. عبد الله شاكر الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، والصلاة والسلام على من أرسله...

ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق

  إعداد: مصطفى البصراتي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعدُ: ففي هذا العدد نتكلم عن مثل من الأمثال الموجودة...

قصة مرض الصحابي خوات بن جبير ووصية النبي صلى الله عليه وسلم له

قصة مرض الصحابي خوات بن جبير ووصية النبي صلى الله عليه وسلم له إعداد: علي حشيش الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعدُ: نواصل في هذا...

اترك رد

من فضلك أدخل تعليقك!
يرجى إدخال اسمك هنا