الحمد للَّه الذي يتولى عباده الصالحين برحمته ويخرجهم من الظلمات إلى النور، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة وهداية للناس كافة. وبعد:
أولاً: يقول تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأََ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ} [القصص: 20: 22].
أخي القارئ الكريم، وقفنا معًا في اللقاء السابق عند حالة الخوف والترقب التي أصابت موسى بعد مقتل القبطي، وقد أصدر الفرعون أوامره بالفعل بقتل موسى عليه السلام، ولم يكن موسى يعلم بذلك.
أما الآن صار التوجس والترقب حقيقة لا مراء فيها، وجاء الناصح الأمين. وقال المفسرون: إنه مؤمن آل فرعون، جاء يخبر موسى بحقيقة التدبير الذي دبره القوم بقتل موسى، وطلب منه أن يخرج من مصر فورًا قبل أن يقع في أيدي رجال فرعون.
خرج موسى عليه السلام من مصر في حالة من الخوف والترقب لا يدري أين يتوجه، ولكنه توجه إلى اللَّه قائلاً: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: من فرعون وقومه وقد وقعوا في الظلم بأنواعه، ومن أشد أنواع ظلمهم شركهم باللَّه رب العالمين، استجاب اللَّه دعاء موسى عليه السلام، وهذه مِنَّة ثالثة امتن اللَّه بها على موسى في قوله سبحانه: {وقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه: 40].
وقد ألهم اللَّه سبحانه موسى أن يتوجه تلقاء مدين، وقد شبَّه بعض أهل العلم توجه موسى تلقاء مدين بهجرة إبراهيم عليه السلام من قبل.
لكن لماذا مدين بالذات ؟ يعلِّل العلماء ذلك بما يأتي:
1- للنسب الذي بين موسى وبين أهل مدين ؛ لأنهم من ولد إبراهيم عليه السلام، وموسى من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فيلتقون معه في إبراهيم.
2- لبعد مدين – مكانًا – عن مصر، ولخروجها عن سلطان فرعون مصر ؛ ولذلك قال الرجل الصالح لموسى لما قصَّ عليه القصص: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25].
3- في قصد بلاد مدين يجد فيها نبيًّا يبصره بآداب النبوة، هذا رأي من يرى أن صاحب مدين هو شعيب عليه السلام.
4- وفي مدين رزق موسى: الزوجة، والعمل، والأمن، وصحبة الرجل الصالح، سواء كان شعيبًا أو ابن أخيه.
5- وفي مدين تم لموسى وصفٌ من أوصاف الأنبياء وخصلة من خصالهم ؛ ألا وهي «رعى الغنم»، فكما رعى موسى الغنم رعى من قبله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط وغيرهما، عليهم الصلاة والسلام، ورعى من بعده داود ومحمد وغيرهم، عليهم السلام، وقد روى البخاري في «صحيحه» عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث اللَّه نبيًّا إلا رعى الغنم». فقال أصحابه: وأنت ؟ قال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة».
ويظهر أن رعي الغنم من تربية اللَّه للنبيين ؛ إذ تعودهم على الصبر والرفق والعطف على الضعفاء، وحسن قيادة النافر، وتأليفه وتقريبه ؛ وإدنائه من قطيعه، فينتقلون من رعاية الغنم إلى رعاية الأمم.
قال صاحب «الروض الأنف»: وإنما جعل اللَّه تعالى هذا في الأنبياء تقدمة لهم ليكونوا رعاة الخلق. اهـ.
6- أراد اللَّه لموسى مدين يتهيأ فيها للرسالة، فتصفو فيها نفسه بعيدًا عن حياة الذل والاستكانة التي كانت سمة الحكم الفرعوني، حتى كان في مصر الرخاء والخصب والذلة مجتمعان، حتى قال لهم فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، فصدقوه، وقال لهم: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} [الزخرف: 51]، فلم يكذبوه، وقال لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، فقالوا: أنت الإله، فكان لا بد من تهيئة موسى بعيدًا هناك. فاللَّه أعلم حيث يجعل رسالته.
ثانيًا: قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 23، 24].
انتقل بنا السياق القرآني إلى بئر مدين، ووصول موسى عليه السلام إليه، وطوي عنا خبر مسيره في الطريق ومعاناته التي لاقاها، والأمر ليس سهلاً والطريق وعرة، والسير فيها له مخاطرة، فمدين تقع على الشاطئ الشرقي من البحر الأحمر، والمسافة بينها وبين مصر ثمانمائة وخمسين ميلاً تقريبًا، تحتاج في قطعها إلى أيام طويلة، قدرها بعض المفسرين بنحو خمسة وأربعين يومًا، وقدرها البعض بأقل من ذلك، وقد مرَّ بنا أن موسى خرج ولم يكن يعرف الطريق، ولم يكن معه زاد، وكان يبيت في البرية لا محالة، وناهيك عما في ذلك من مخاطر، بالإضافة إلى خطر طلب فرعون له، فقد بعث خلفه من يتعقبه، ولن نقول كما ذكر بعض المفسرين أن اللَّه أرسل له ملكًا ومعه فرس وعصى، وغير ذلك ؛ لأنه ليس عليه دليل يُحتج به، لكنا نقول ما قال به القرآن أن موسى عليه السلام كان رجلاً جلدًا، وقد ألهمه اللَّه سواء السبيل، ولعل السر في أن القرآن طوى عنا أخبار هذه المسيرة فيه إشارة على أن اللَّه ألهم موسى رشده فلم يضل الطريق، ويسر عليه أمره فطوى له الأرض طيًّا، وكل ذلك ؛ لأن موسى يتربى على عين اللَّه، وأن اللَّه ألهمه سواء السبيل، فما ظنك بعبدٍ امتن اللَّه عليه بهذه المنن ؟
و{لما} حرف توقيت وجود شيء بوجود غيره، أي عندما حلَّ موسى بأرض مدين ونزل عند بئر الماء الذي يجتمع عنده الناس للسّقيا، والذي تعرف به القبيلة وجد موسى جماعة من الناس حضروا للسقيا ووجد كذلك امرأتين تقفان في جانب بعيد عن الزحام وتمنعان قطيعهما من الماء، فتعجب موسى من أمرهما، ولذلك توجه إليهما متسائلاً عن أمرهما: {قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}، فعلم موسى من الإجابة أنهما من بيت فضل وأدب، وأنهما لم يخرجا إلا لضرورة، والتمس موسى أيضًا أنهما في حاجة إلى مساعدة، حيث يمنعهما الحياء من مزاحمة الرعاء، {فَسَقَى لَهُمَا} أي: رأفة بهما وغوثًا لهما، وذلك من قوته ومروءته، قام موسى واقتحم ذلك العمل الشاق على ما هو عليه من التعب والإعياء عند الوصول، قام موسى بما قام به مروءة، ثم عاد إلى ما كان عليه من الإيواء إلى ظل الشجرة، ووجد موسى برد الظل فتذكر بهذه النعمة نعمًا كثيرة أسداها اللَّه إليه، منها نجاته من القتل، وتربيته على عين اللَّه، وإتيانه الحكمة والعلم، وتخليصه من تبعة قتل القبطي، وإيصاله إلى أرض معمورة بعد أن قطع فيافي ومفازات، تذكَّر ذلك كله، فتهتف من أعماقه: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، فجاء بهذه الجملة الجامعة للشكر والثناء والدعاء، واعترف لربه بالفضل ولنفسه بالحاجة إلى فضل اللَّه والفقر إليه، وبعد هذا اللجوء الصادق وإظهار الفقر الذاتي جاءت الإجابة سريعة من الغني الحميد متمثلة في الآتي:
ثالثًا: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25].
والفاء هنا تدل على سرعة الاستجابة، وعقب انتهاء دعاء موسى مباشرة، جاءت إحدى البنتين قد أرسلها أبوها في طلب موسى بعد علمه بما حدث ليجازي موسى بما فعل من خير، وجاءت تمشي يغمرها الحياء، أي: مَشي الحرائر، كما رُوي عن أمير المؤمنين عمر، رضي اللَّه عنه، جاءت مستترة بكم درعها على وجهها، ليست بسلفع من النساء – أي: الجريئة السليطة – ولا خراجة ولا ولاجة. قال ابن كثير: هذا إسناد صحيح.
ماذا يريد الغريب في مثل هذه الحالة غير مكان يأوي إليه، وطعام يرد جوعته.
وهكذا ساق اللَّه لموسى ما يريد، وفوق ما يريد، فسبحانه الفعال لما يريد.
رابعًا: قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25]، جاء موسى إلى العبد الصالح، أو النبي شعيب، وقصَّ عليه خبره، فطمأنه وقال: لا تخف، نجوت من القوم الظالمين، أي من فرعون وقومه ؛ لأن بلاد مدين تابعة لملك الكنعانيين، وهم أهل بأس ونجدة. ولا شك أن مطلب الأمن كان هو المطلب الأساسي لموسى في مثل حالته هذه، وقد لمس هذا النبي الكريم شعيب عليه السلام فأراد أن يفيض الطمأنينة على قلب موسى عليه السلام، ولعل صاحب مدين إن كان هو النبي شعيب كما يرى الأكثرون من أهل العلم فقد علم ذلك من اللَّه بحكم نبوته. واللَّه أعلم.
وفي ختام هذه الواقعة نسوق بعض الفوائد التي استنبطها العلاّمة عبد الرحمن السعدي، رحمه اللَّه، حيث قال:
ومنها: أن إخبار الغير بما قيل فيه وعنه على وجه التحذير له من شر يقع به لا يكون من باب النميمة، بل قد يكون واجبًا.
ومنها: إذا خاف شخص التلف بالقتل بغير حق في إقامته في موضع ما، فلا يلقي بيده إلى التهلكة ويستسلم للهلاك، مع قدرته على الفرار.
ومنها: إذا كان لا بد من ارتكاب إحدى مفسدتين تعين ارتكاب الأخف منهما الأسلم دفعًا لما هو أعظم وأخطر، كما فعل موسى بخروجه إلى مدين، وهو لا يعرف الطريق إليها، وليس معه دليل، ولا زاد.
ومنها: أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى العمل أو التكلم ولم يترجح عنده أحد الأمرين، فإنه يستهدي ربه ويسأله أن يهديه إلى سواء السبيل.
ومنها: أن الرحمة والإحسان على الخلق، من عرفه العبد ومن لا يعرفه، من أخلاق الأنبياء، وأن من جملة الإحسان والإعانة على سقي الماشية.
ومنها: أن اللَّه كما يحب من الداعي أن يتوسل إليه بأسمائه وصفاته ونعمه الخاصة والعامة، فإنه يحب منه أن يتوسل إليه بضعفه وعجزه وفقره، كما قال موسى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، وذلك هو حقيقة العبودية.
ومنها: أن الحياء والمكافأة على الإحسان لم يزل دأب الأمم الصالحين.
ومنها: أن العبد إذا عمل العمل للَّه خالصًا ثم حصل به مكافأة عليه بغير قصده فإنه لا يلام على ذلك ولا يخل بإخلاصه وأجره. اهـ. من «تيسير الكريم المنان» مختصرًا.
هذا، واللَّه سبحانه وتعالى من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وإلى لقاء نستودعكم اللَّه الذي لا تضيع ودائعه.
بقلم عبد الرازق السيد عيد