الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه.. وبعد:
فقد أكرمني اللَّه عز وجل بالفوز بالمركز الأول في مسابقة الشعراوي القرآنية التي أعلن عنها مجمع اللغة العربية، وعنوانها: «الفواصل القرآنية – دراسة بلاغية»، وهذا عرض موجز للموضوع:
نزل القرآن بلسان عربي مبين، ونزل على قوم شغلهم البيان، حتى كان أعظم بضاعتهم، وتفعل الكلمة فيهم ما لا تفعل السيوف، وكان على القرآن لكي يؤثر فيهم أن يعلو على بيانهم، وهكذا جاء القرآن ممثلاً أرقى استعمال للغة من لغات البشر، وتشرفت العربية بهذا الشرف الرفيع.
وصور الإعجاز في القرآن لا تحصى، ومنها إعجازه اللغوي، ومن مظاهر الإعجاز اللغوي استعماله للفواصل التي أغنى اللَّه بها العرب عن ولعهم بالقوافي والأسجاع وعشقهم لموسيقى الألفاظ، فوجدوا خيرًا من ذلك في القرآن الكريم، فآمنوا به.
وقد درستُ الفواصل وسط أخواتها من الظواهر الإيقاعية المشابهة لها في نهايات الجمل العربية كالقافية والسجع والجناس – حين يكون آخر الجملة – والاتباع ؛ وذلك ليظهر لنا فضل القرآن على غيره من الكلام، مع أنه استعمل اللغة نفسها التي استعملها العرب بكل صورها ومظاهرها تقريبًا.
وتحليل الفواصل ودراستها يستدعي الإلمام بعلوم الأصوات والصرف والنحو والمعجم والدلالة، وذلك كله يمدّ الدراسة الأسلوبية بعناصرها الأولى، وهو ما فعلناه في دراستنا هذه، وسوف نستعرض مباحثها بإيجاز شديد.
والفاصلة لفظ آخر الآية ينتهي بصوت قد يتكرر محدثًا إيقاعًا مؤثرًا في صورة السجع وقد لا يتكرر، ولكن الفاصلة تحتفظ دائمًا بإحدى صور التوافق الصوتي مع الفواصل السابقة واللاحقة، وفي الجانب الصوتي نجد القرآن يستعمل في الفاصلة حروفًا ذات وقع نغمي ووضوح سمعي لتظهر للسمع حين الوقف عليها، والوقف على أواخر الآيات من سنن القراءة كما هو معلوم، ولذلك استعمل النون فاصلة في حوالي 51% من آياته، تلتها
الميم بحوالي 12.5%، وهما أهم حروف الترنم في العربية، في حين لم يستعمل الخاء فاصلة قط لصعوبتها وصعوبة الوقف عليها.
ولحرص القرآن على الإيقاع اللفظي وتناسق الفواصل تُحذف بعض الحروف في الفاصلة مثل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4]، وأصلها يسري، ولكن حذف الياء يساويها بما سبقها وتلاها من الفواصل، وكثيرًا ما تحذف ياء المتكلم في الفاصلة للغرض نفسه مثل: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [آل عمران: 51]، وأصلها: أطيعوني، وعلى العكس من ذلك قد يزيد القرآن حرفًا للغرض نفسه مثل: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10]، وأصلها الظنون بدون ألف ؛ لأنها معرفة بالألف واللام، ولكن فواصل السورة أكثرها بحرف مد، فوافقتها، ومثل ذلك زيادة هاء السكت في: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} [الحاقة: 25- 29]، وذلك لتتوافق الهاء إيقاعيًّا مع التاء المربوطة التي تصير هاءً بالوقف، بل إن القرآن الكريم قد يغير من بِنْية الكلمة لأجل الإيقاع كما في: {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2]، وهو نفسه طور سيناء المذكور في سورة «المؤمنون»، لكن فواصل السورة كلها نونية، فغير بنية الكلمة لتتوافق الفواصل، ومثله: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 10]، وأصله دسّسها، ولكنه لا يتوافق مع فواصل السورة إلا بالصيغة المذكورة، وكل ذلك يؤكد حرص القرآن على إيقاع الألفاظ الذي جُبل الناس على حبه، هذا مع الحرص على جانب الدلالة أيضًا.
والتقديم والتأخير يحدث كثيرًا في الفواصل القرآنية، وله بلاغته الخاصة وجماله وإيقاعه المؤثر، وهو في كلامنا عملية فنية معقدة تحتاج إلى خبرة عليا بفن القول، وترتبط بالمستويات العليا للغة، ويقول فيه العلاّمة عبد القاهر الجرجاني: هو باب كثير الفوائد، جمّ المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية. ومن صوره في الفواصل تقديم المفعول على الفاعل، مثل: {وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [القمر: 41]، وذلك لأن فواصل السورة كلها رائية فيتحقق الإيقاع الجميل بذلك، ومنه تقديم المفعول للاختصاص، مثل: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]، فقد حقق تقديم المفعول (أنفسَ) غرضين:
الأول: إيقاعي وهو إجراء الفاصلة بالنون لتتوافق إيقاعيًّا مع غيرها.
والثاني: بلاغي وهو اختصاصهم بظلم أنفسهم، ومنه تقديم الضمير على ما يفسره في {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} [طه: 67]، حيث قدّم الضمير العائد على موسى، وأخّر الفاعل لرعاية الإيقاع في الفاصلة، وصور التقديم والتأخير في الفواصل كثيرة.
وثمة ظاهرة أخرى في الفواصل هي ظاهرة الإحلال اللفظي، وهو إحلال لفظ محل آخر لدلالة بلاغية وحاجة السياق بعناصره المتنوعة، وصوره كثيرة في الفواصل، نذكر منها إحلال صيغة فاعل محل مفعول، مثل {خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} [الطارق: 6] أي: مدفوق كما ذكر البلاغيون، ولكن صيغة فاعل تُوافق الفواصل المنتهية بحرف مسبوق بألف المد، ولا توافقها كلمة مدفوق ؛ لأن المد فيها الواو، وهو لا يتجانس مع الألف، بل مع الياء، وهناك نكتة بلاغية في استعمال لفظ فاعل هنا ؛ وهي أن ذلك الماء لا يخرج إلا دفقًا أي: سريعًا، ولذا يناسبه لفظ فاعل لا مفعول، وعكس ذلك إحلال مفعول محل فاعل في {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61] أي: آتيًا كما ذكروا، ولكنه بذلك يحقق الإيقاع في الفواصل المنتهية بحرف مد مسبوق بياء مشددة، وفيه نكتة أخرى وهي جعل الوعد نفسه عَلَمًا منصوبًا يتوافد إليه الناس، وذلك أبلغ في الدلالة، ومن صور الإحلال كذلك لدواع سياقية وإيقاعية إحلال المفرد محل المثنى، والعكس، والجمع محل المثنى، والعكس، والعاقل محل غير العاقل، والمؤنث محل المذكر، والعكس..، وكل ذلك في بلاغة عالية وأسلوب بديع يمتع العقل والروح معًا لمن يتدبر ويتذوق.
وهناك ظاهرة مشابهة لها هي ظاهرة الاستغناء بلفظ عن آخر يمكن أن يحل محله، ولكن فُضّل الأول لدواع سياقية، والقرآن يختار اللفظ بدقة متناهية، ومن ذلك أن القرآن يستعمل كثيرًا صيغة «غفور» في الفواصل، ولكن يستغني عنها بـ «غفار» لتتوافق الفواصل في {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]، والفواصل هنا هي «إسرارًا، وغفارًا، ومدرارًا»، أما غفور وغفّار في حق اللَّه تعالى فهما صيغتا مبالغة ولا تفاضل بينهما دلاليًّا، ولكن حاجة السياق تحدد المختار منهما، ومثله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: 22]، حيث أوثرت صيغة كبّار على كبير لإبداء المبالغة وتحقيق الإيقاع، ومثله استعمال «عسر» مكان عسير المعتادة في {هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 8].
ومن مظاهر البلاغة في الفواصل كذلك حذف بعض الألفاظ في الفواصل، وأشهر صوره حذف المفعول به والأفعال يعلمون ويفعلون ويعملون..، يحذف معها المفعول كثيرًا في الفاصلة لدواع سياقية كالتهديد في {كَلاَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3]، ويُحذف للمواساة والتخفيف في {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3]، أي: وما قلاك، فحذف الكاف للفاصلة، ولعدم ذكر الضمير العائد على النبي صلى الله عليه وسلم مع لفظ القِلى الدال على البغض، وحقق مع ذلك إيقاعًا جميلاً بتوافق الفواصل، ومنه إطلاق النوع، كما في {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى} [الشمس: 5]، أي: أعطى أي خير، واتقى اللَّه واتقى المحرمات والشبهات.. إلخ، ولو ذكر المفعول صريحًا لصرف الذهن إلى شيء واحد فقط، والفاصلة لا بد أن تأتلف مع مضمون الآية، فإن كان مضمونها الرحمة دلت الفاصلة على ذلك، أو العذاب دلت عليه، فهي تأتي متممة للمعنى ومقررة له في النفوس، وقد ذكرنا لذلك شواهد كثيرة، وتشارك الفاصلة كذلك في تصوير اللوحة القرآنية الفريدة البديعة، خصوصًا في السور القصار، حيث نجد أن الآيات ذات الموضوع الواحد تكون بفاصلة واحدة، فإذا تغير الموضوع في السورة تغيرت الفاصلة، وقد ذكرت الكثير من ذلك، وهو يدل على إعجاز القرآن الكريم، ففي سورة نوح نجدها تبدأ بإخبار اللَّه تعالى أنه أرسله إلى قومه، ثم يذكر طرفًا من خطاب نوح إليهم في الآيات (1- 4) وفواصلها: (أليم، مبين، أطيعون، تعلمون)، وفيها كان الخطاب مباشرًا من نوح عليه السلام إلى قومه، فلما كذبوه اتجه إلى ربه بالخطاب شاكيًا مناجيًا، فتغيرت الفاصلة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا} [نوح: 5]، واستمر الخطاب والمناجاة مع الله بهذه الفاصلة المنتهية بحرف المد الناشئ من الوقف على الحرف المنون، فناسب هذا جوَّ الشكوى والحزن، وساعدت الفاصلة في رسم اللوحات ونقل المعاني بدقة، ومثلها سورة «التكوير» التي تبدأ بلوحة شرط بديعة قصيرة الآيات متقاربة في الوزن، وتلزم فاصلة واحدة هي التاء المفتوحة الساكنة (1- 14)، فإذا انتهت لوحة الشرط وجوابه وبدأت لوحة القسم تغيرت الفاصلة لتساعد في رسم اللوحة وتصوير المعنى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 15- 18].
وهذا كله بلا شك من صور الإعجاز والجمال في هذا الكتاب الخالد، وهناك مباحث أخرى لم نعرض لها هنا لضيق المقام. واللَّه الموفق.
وأسرة تحرير مجلة التوحيد تتقدم إلى الدكتور سيد خضر بخالص التهنئة، داعين المولى عز وجل أن يديم عليه التفوق والرقي، وأن يجعل عمله لوجهه تعالى، إنه نعم ذلك والقادر عليه. وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
دكتور / السيد خضر


