الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه وآله وصحبه.. وبعد:
فهذه بقية أخوات «كان»، نُتبعها ببعضٍ من صور الإعجاز في لغة القرآن الكريم، فنقول وباللَّه التوفيق:
زال: وهي تدل بصيغتها على النفي، فإذا سبقها نفي أو ما يشبهه من النهي والدعاء صارت للإثبات ؛ لأن نفيَ النفي إثبات، والنهي والدعاء يتضمنان النفي معنًى لا لفظًا ؛ إذ المطلوب بهما ترْكُ شيءٍ، ومع النفي وشبهه تفيد «زال» مع معموليها اتصاف اسمها بمعنى الخبر اتصافًا مستمرًّا، أو غير مستمرٍّ حسبَ السياق، فمثال المستمر: ما زال اللَّهُ غفورًا رحيمًا، ومثال الثاني: ما زال الحارسُ يقظًا، فهذا يفيد اتصافه بذلك لفترة من الزمان ؛ لأنه لا يبقى كذلك أبدًا، ومثالها مع النهي: لا تزالوا متيقظين لعدوكم، ومنه قول الشاعر:
صاحِ شَمِّرْ ولا تَزَلْ ذاكرَ المــوتِ فنسيانُه ضــلالٌ مبينُ
صاح: منادى محذوف الأداة مُرخَّم، والأصل صاحبي، وهو منصوب بالفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة تخفيفًا، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة للياء، والشاهد: تزلْ: فعل مضارع ناقص مجزوم بحرف النهي واسمه ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنت، وخبره: ذاكرَ، وسُبقت زال بالنهي لشبهه بالنفي المشترط سبقها به لتعمل عمل «كان»، ومن شواهدها في الحديث: «لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمرُ اللَّهِ وهم ظاهرون». متفق عليه.
وهم أهل السنة والجماعة، القائمون بسنن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أخرى للحديث: «لا يضرُّهم مَنْ خذلهم ولا مَنْ خالفهم، حتى يأتي أمرُ اللَّه وهم ظاهرون على الناس».
طائفة: اسم لا تزال مرفوع، ظاهرين: خبرها منصوب بالياء. ومن الشواهد القرآنية: {وَلَوْ شَاء
رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118]، لا: نافية، ويزالون: فعل مضارع ناقص مرفوع بثبوت النون، والواو في محل رفع اسمه، مختلفين خبره.
وقد يكون النفي قبلها مفهومًا من السياق، ويشترط له أن يكون في جواب قسمٍ فعلُ جوابه مضارع، مثل: تاللَّهِ تزالُ أمتُنا بخير ما تمسكت بدينها، أي لا تزال، والخبر شبه الجملة «بخير» في محل نصب، وما مصدرية ظرفية في محل نصب، أي مدةَ تمسكها.
تنبيه: ثمة فعلان في العربية بلفظ «زال» هذه في الماضي لكنهما يختلفان عن الناقصة في المعنى والمضارع، وهما:
1- زال يَزيلُ زَيْلاً، أي ميّز بين شيئين وفصل بينهما، ومنه قوله تعالى: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28] أي فرقنا وميزنا بينهم، وزيّل هنا مشددة، أما الناقصة فلا تستعمل مشددة.
2- زال يزول زوالاً، بمعنى هلك أو اضطرب، ومنه قوله تعالى عن السماء والأرض: {وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} [فاطر: 41]، التاء: ضمير مبني في محل رفع فاعل زال، وإنْ في الآية نافية بمعنى ما، و{أحد} فاعل مجرور لفظًا بمن الزائدة للتوكيد، وهو في محل رفع، والمعنى: ما أمسكهما أحد من بعده، ولكن التركيب القرآني له بلاغته وإعجازه وجماله، إذ تقيد «مِنْ» الزائدة لفظًا إحاطة النفي وشموله، فالفعلان: زال يزيل، وزال يزول تامان.
10- فَتِئَ: وهي بمعنى زال وتعمل بشروط عملها، ومنه قولك: ما فتئَ المسلمون يذكرون أرضَهم الضائعةَ في الأندلس وفلسطين، المسلمون: اسم ما فتئ مرفوع بالواو، يذكرون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، والواو: ضمير مبني في محل رفع فاعل، والجملة في محل نصب خبر ما فتئ، ويحذف حرف النفي معها قياسًا كما في {قَالُواْ تَاللَّه تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85]، حيث أقسم إخوة يوسف أن أباهم ما يزال يذكر يوسف، وحذف النفي معها هنا قياسي لوقوعها في أسلوب قسمٍ فعلُ جوابه مضارعٌ، واسم تفتأ ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنت، وخبرها الجملة الفعلية {تذكر} في محل نصب، و{يوسف}: مفعول به.
11- بَرِحَ: وهي بمعنى زال وتعمل عملها مثل: ما برح المسلمون راغبين في التقدم العلمي، وقد تكون تامة بمعنى انتقل كقولك: برح الولد مكانَه، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60]، اختلفوا فيه، فقال بعضهم: إنها الناقصة بمعنى لا أزال، وخبرها محذوف لدلالة السياق عليه، وقال آخرون: إنها تامة بمعنى لا أزال متابعًا السفرَ حتى أصلَ مجمعَ البحرين، فيكون برح بمعنى فارق. [راجع: «البحر المحيط»: (7/198].
12- انفكّ: وهي كأخواتها السابقة، ومنه قولك: الطالبان ما انفكا مجتهدين، وتأتي تامة مثل: انفكّ القيدُ وفككته، أي حللته.
13- دام: وتفيد مع معموليها استمرار المعنى الذي قبلها مدةَ ثبوت معنى الخبر للاسم، كقوله تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]، أي أصلي وأزكي مدة دوامي حيًّا، أي مدة ثبوت معنى الخبر «حيًّا» لاسمها وهو ياء المتكلم ضمير عيسى عليه السلام، ويشترط لها أن تكون بلفظ الماضي وتسبقها ما المصدرية الظرفية، وأن يسبقها كلام كما في الشاهد، وألا يتقدم خبرها عليها، ومن ذلك قول بني إسرائيل لموسى حين أُمروا بدخول القدس وفيها قوم أشداء: {إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، الواو: ضمير مبني في محل رفع اسم دام، وشبه الجملة «فيها» في محل نصب خبرها، أي ما داموا مستقرين فيها.
وتستعمل تامة كما في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود: 107]، أي: ما بقيت السماوات والأرض، و{ما} مصدرية ظرفية في محل نصب، والسماوات: فاعل دام.
l من صور الإعجاز في لغة القرآن الكريم:
القرآن كتاب العلم الأكبر ومعجزة الإسلام الخالدة إلى يوم الدين، ولا شك أن أول مظاهر إعجازه تكمن في لغته التي أخذت من ألفاظ العرب وأساليبهم، ولكنها ارتقت وسمت إلى آفاق جمالية وبلاغية أعجزتْ أهلَ البيان والفصاحة.
ومن مظاهر الإعجاز التي لا تُحصى في لغة القرآن الكريم أنه لا يستعمل لفظين من أصلين لغويين مختلفين للدلالة على معنى واحد، وهو ما يُعرف في اللغة بظاهرة الترادف اللفظي، وقد توصّلتُ إلى ذلك بعد تحليلٍ دقيقٍ لبعض من لغة القرآن الكريم وَفقَ أصول التحليل اللغوي السياقي، واللغة العربية المستعملة في عصر القرآن كانت تمثل عدة مستويات ولهجات متنوعة ؛ ولذا جاز فيها وقوع الترادف، ولكن القرآن يمثل مستوى لغويًّا واحدًا، وقد نزل بلغة قريش ؛ ولذا لم يقع فيه الترادف التام – فيما توصلتُ إليه – إذْ لكل لفظ فيه موقعه ودلالته المحددة التي لا يقوم بها غيره، ولا يتسع المقام هنا لتفصيل ذلك، وإنما سأذكرُ بعضَه موجزًا، تاركًا للقارئ السبيلَ إلى مزيد من البحث والتدبر، ومن ذلك:
1- تستعمل المعاجم وأهل اللسان كلمتي الجسم والجسد بمعنى واحد، ولكن القرآن يستعمل الجسم لما فيه روح فقط، والجسد لما ليس فيه روح، ويمكنك مراجعة ذلك بنفسك في مواضعه، واستعن بالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
2- يستعمل الناس الحلف والقسم بمعنى واحد، والقرآن يستعمل الحلف في مواضع الاعتذار ومحاولات تبرئة النفس من الاتهام، ويستعمل القسم في مواضع التفخيم والتعظيم والتوكيد وما شابه ذلك.
3- ورد لفظا الصوف والعهن في القرآن، وجعلهما معظمُ المفسرين واللغويين بمعنى واحد، ولكن التدبر الدقيق للسياق يبين أن لفظ الصوف لا يقوم مقام لفظ العهن، قال تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِِ} [القارعة: 5]، والعهن هو الصوف الملون، وشُبهت به الجبالُ يوم ينسفها ربنا نسفًا ويسيرها سيرًا فيختلط ترابها، ومعلوم أن لكل جبلٍ لونًا محددًا ؛ لقوله تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] هذا في الدنيا، ولكنها يوم القيامة تختلط لما يحدث لها من النسف والتسيير، فيكون أنسب شبه لها الصوف الملون ألوانًا متعددة وهو العهن.. وهذه الفروق كثيرة في لغة القرآن الكريم، ولكن لا تظهر إلا بالدرس المتأني المتدبر.
واللَّه الموفق.
لمزيد من التفاصيل راجع لكاتب المقال:
أ- القرآن والترادف اللغوي 1991 م.
ب- مقالتنا «هل في القرآن مترادفات» بمجلة منار الإسلام الإماراتية، عدد (صفر 1420 هـ- مايو 1999م).
بقلم الدكتور / سيد خضر