بعد رحلة عطاء علمي ثرية، رحل عنا العالم الجليل الشيخ سيد سابق عن عمر يناهز 85 عامًا، والراحل الكريم الذي فقدناه في الأيام الماضية، من الدعاة النادرين، الذين حملوا الدعوة على كاهلهم قولاً وعملاً، تتلمذ على يد الشيخ محمود خطاب – رحمه اللَّه – ودرس واجتهد وكافح وثابر، وعاش حياته كلها واصلاً الليل والنهار في سبيل الشريعة الإسلامية، والدعوة إلى اللَّه بالحكمة والموعظة الحسنة. من أعلامها فضيلة الشيخ: سيد سابق
حياة الشيخ ومؤلفاته !!
قضى الشيخ – رحمه اللَّه – سنوات كثيرة في السجن السياسي أيام الملك فاروق ؛ متهَمًا بالإفتاء في قتل النقراشي باشا رئيس الحكومة – في ذلك الوقت – وأطلقوا عليه اسم مفتي الدماء، ولكن محكمة الجنايات حكمت له بالبراءة الناصعة، وناله في تلك الأيام ما ناله من تعذيب نفسي وجسدي، ولكنه صبر واحتسب صبر المؤمن المحتسب، متأسيًا بما حدث لبعض الأئمة والعلماء من قبله.
وسافر الشيخ إلى مكة المكرمة وعمل أستاذًا بجامعة أم القرى سنوات طويلة، يلقي دروسه ليلاً ونهارًا سعيدًا بمجاورة البيت الحرام، مع نخبة من العلماء المصريين الذين كان لهم دور يُذكر فيشكر في ترسيخ جامعة أم القرى ورفع دعائمها وتعليم أبنائها، وكان منزله العامر ملجأ القاصدين، حيث كان يفيض على الجميع من خيراته وكرمه وعلمه الوفير، ويحنو عليهم جميعًا، وما ضاق يومًا بزائر أو قاصد.
لقد كان – رحمه اللَّه – ضئيل الجسم، ولكنك عند لقائه تشعر بشموخ القامة، وعلو المقصد، وحلو الحديث، وجمال الداعية.
أَلَّف الشيخ – رحمه اللَّه – الكثير من الكتب، وكان من أشهرها كتاب «فقه السنة» الذي لا يكاد يخلو منه بيت أو مكتبة في شتى بقاع الأرض، ويعد الشيخ سيد سابق من علماء الأصول الذين التزموا في بحوثهم بالأصلين: الكتاب والسنة، ونهل من المنابع الصافية لعلوم الإسلام، ويسر اللَّه له تبسيط القضايا الفقهية حتى صارت في متناول عامة المسلمين.
العالم الإسلامي يكرم صاحب «فقه السنة» !!
وكان كتاب «فقه السنة» هو السهل الممتنع الذي ملأ الدنيا، وحصل الشيخ – رحمه اللَّه – على نوط الامتياز من الرئيس مبارك عام 1989م، كما حصل على جائزة الملك فيصل العالمية عام 1984م لتفانيه في خدمة الفكر الإسلامي عن مؤلفاته القيمة، وقد كان له إسهامات في القضايا المطروحة، وترك السعودية وعاد إلى مصر، ولم ينقطع – رحمه اللَّه – عن المحاضرات والندوات حتى أواخر أيامه. رحمه اللَّه رحمة واسعة.
مجالسه العلمية
وقد كانت مجالسه العلمية.. وإجاباته على الأسئلة الفقهية تتميز بالدقة
والإيجاز والوضوح، وكانت مجالسه تحف بها المهابــة، ومــع ذلك كـــان يتخللها شيء من الترويح عن النفس بالفكاهة المهذبة التي تنقل سامعيه إلى جو باســــم ومنـــاخ أخـــــــوي مرغوب، فقد كان يمثل شخصية العالم الجليل، والداعية المثالي والفقيه المتمكن.
منهج الشيخ – رحمه اللَّه
اعتمد الشيخ سيد سابق – رحمه اللَّه – منهجًا يقوم على طرح التعصب للمذاهب مع عدم تجريح أصحابها والاستناد إلى أدلة من الكتاب والسنة والإجماع، وتبسيط العبارة للقارئ بعيدًا عن تعقيد المصطلحات وعمق التعليلات، والميل إلى التسهيل والتيسير على الناس، والترخيص لهم فيما يقبل الترخيص، فإن اللَّه يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه، وكما يكره أن تؤتى معصيته، وحتى يحب الناس الدين ويقبلوا عليه، كما يحرص على بيان الحكمة من التكليف ؛ اقتداء بالقرآن في تعليل الأحكام.
بُعد الشيخ عن الخلاف !!
وكان من التسهيل الذي اتبعه الشيخ في منهجه الذي ارتضاه في كتابه «فقه السنة» هو البعد عن ذكر الخلاف إلا ما لا بد منه، فيذكر الأقوال في المسألة، ويختار الراجح أو الأرجح في الغالب، وأحيانًا يترك الأمر دون أن يرجح رأيًا، حيث لم يتضح له الراجح، أو تكافأت عنده الأقوال والأدلة، فيرى من الأمانة أن يدع الأمر للقارئ يتحمل مسئولية اختياره أو يسأل عالمًا آخر، وهذا ما لا يسع العالم غيره.
صلته بأنصار السنة المحمدية !!
لقد كان الشيخ سيد سابق – رحمه اللَّه – على صلة بعلماء أنصار السنة المحمدية أمثال الشيخ حامد الفقي، والشيخ عبد الرحمن الوكيل، والشيخ محمد خليل هراس، بل وعلى معرفة جيدة بالشيخ أبي الوفاء محمد درويش، مؤسس أنصار السنة المحمدية بسوهاج، والذي كان الشيخ سيد سابق يثني عليه كثيرًا ويقول: إنه قد استفاد من كتاباته وخاصة كتابه «معارف إسلامية».
وظلت علاقة الشيخ برجال أنصار السنة المحمدية علاقة طيبة، حتى بعد أن أعيد إشهار الجماعة، فقد كان الشيخ رشاد الشافعي – رحمه اللَّه – يدعوه إلى مقر الجماعة بعابدين لإلقاء الدروس والمحاضرات العلمية، وكان – رحمه اللَّه – يسعد بذلك كثيرًا، وكان إقبال شيوخ وشباب أنصار السنة كبيرًا على محاضراته، حيث كانت تمتلئ بهم الدار يوم حضوره إليها.
رحيل العالم الجليل.. الداعية والفقيه !!
كما كان – رحمه اللَّه – من كُتَّاب مجلة التوحيد عند صدورها في السبعينات، فجزاه اللَّه خير الجزاء عما قدم من خدمات وعطاء في سبيل نشر عقيدة أهل السنة والجماعة. رحم اللَّه عالمنا الجليل رحمة واسعة، وأثابه في حياته الباقية على ما قدم في الحياة الفانية من جلائل الأعمال، وجزاه عن العلم والإسلام والأمة خير ما يجزي العلماء العاملين والدعاة الصادقين.
وإنا للَّه وإنا إليه راجعون.
إعداد / جمال سعد حاتم