الحمد للَّه سبحانه أنزل على نبيه يوم عرفة بحجة الوداع قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، تلك الآية التي نزلت يوم عرفة في حجة الوداع قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بقرابة تسعين يومًا جاءت بأكمل نعم الله سبحانه في الدين الكامل، فإذا أضفنا لذلك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم جاء بخاتم الشرائع كان لهذا الإكمال والإتمام عظيم القدر عند من علمه ووعاه.
هذا، وينبغي أن نعلم أن اللَّه الذي أتم الشرع هو الذي قدر المقادير، فقدر سبحانه الأحداث التي وقعت ليطبق الشرع، فما حدث من سرقة المخزومية وقطع يدها، أو زنا الغامدية ورجمها، إنما هو تقدير رب العالمين لإكمال شرعه بإظهار المثال لتطبيق الحدود، فلا يجيز لنا ما ذكر أن نستبيح عرض إحداهما، وبيان ذلك أن المخزومية تقول عنها عائشة رضي اللَّه عنها: فحسنت توبتها بَعْدُ وتزوجت وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأما الغامدية فقال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: «لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له»، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت.
وكذلك الحال في كثير من الأصحاب الذين وقعت منهم هنات وأخطاء، ثم تابوا منها، بل والكثير منهم بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ؛ كحاطب بن أبي بلتعة الذي كاتب قريشًا يفشي سر النبي صلى الله عليه وسلم بغزو مكة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن يدخل الجنة».
فهذه نعمة الله علينا أوضح لنا تفاصيل الشريعة بالنص قرآنًا وسنة، ثم بالتطبيق في الأحداث التي قدرها اللَّه سبحانه.
فكانت هذه الأحداث التي وقعت علمًا جمًّا، صار الصحابة بها أعلم الناس، وقدر اللَّه سبحانه فأطال أعمار رجال من الصحابة، فكثر نقل العلم عنهم ؛ كأنس وعائشة وأبي هريرة وعبد الله بن عباس وعبد اللَّه بن عمر، فالتف الناس حولهم في كافة مدن الإسلام، فكانوا مدارس يتخرج فيها العلماء من التابعين مثل كريب الذي كان مولاً لابن عباس، وسعيد بن المسيب الذي كان زوجًا لبنت أبي هريرة، وعروة بن الزبير الذي كان ابنًا لأخت عائشة، وسالم الذي كان ولدًا لعبد اللَّه بن عمر، فكانت البيوت والمساجد معاهد علم يجتمعون فيها ويتدارسون العلم ويتناظرون في المسائل، وأذكر من هذه المجالس ما كان في مجلس ابن عباس رضي اللَّه عنهما من حضور أبي هريرة الصحابي المعروف، وحضور كريب مولى ابن عباس وحضور أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف التابعي المعروف، وسؤال سائل عن عدة المرأة التي يموت زوجها وهي حامل، فأفتى ابن عباس بأنها تعتد بأبعد الأجلين، فسأله أبو سلمة عن حال سبيعة الأسلمية التي مات زوجها وولدت بعده بعشرين ليلة، وأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم في الزواج، فقال: أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، يعني أنا مؤيد لاعتراض أبي سلمة بن عبد الرحمن، فأرسل ابن عباس غلامه كريبًا إلى أم سلمة يسألها فذكرت له حديث سبيعة، فرجع ابن عباس إلى قول أم سلمة الذي يقول به أبو سلمة وأبو هريرة رجوعًا للحق بعد أن علمه.
ففي وفرة الصحابة الكرام، الذين كانوا في العلم أئمة، وفي الفقه قادة، وفي الجهاد أبطالاً، أوجد الله سبحانه الأحداث الكثيرة والفتن العظيمة ؛ ليكون التطبيق بالمثال موضحًا للنص والمقال، حيث ظهرت فرق الضلال من الخوارج والروافض والجهمية والقدرية، فــرد الصحابة على أقوالهم ليظهر الحق جليًّا نصًّا بالقرآن والسنـة، وفهمًا بأقــــــوال الصحابة، وتطبيقًا بمواقفهم ومناظراتهم، ومن أمثلة ذلك مناظرة ابن عباس للخوارج عندما دخل عليهم فسألوه: ما جاء بك يا ابن عباس ؟ فقال: جئتكم من عند صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم منهم أحد، فكانت هذه الكلمة موجعة للخوارج ؛ لأن معناها: لو كان معكم من الحق شيء لكان بينكم من الصحابة من يقول بقولكم، فإذا كان ليس بينكم من الصحابة أحد، والصحابة جميعًا مع علي بن أبي طالب، فأنتم الآن على باطل، ثم سألهم عن الشبهات التي عندهم، وأجابهم عنها، فرجع أكثرهم وبقي القليل الذين قتلوا يوم الحرة في قتال الخوارج حين قاتلهم علي بن أبي طالب، رضي اللَّه عنه.
لهذا وغيره كانت عقيدة أهل السنة في الصحابة حبهم والترضي عنهم، والسكوت عما شجر بينهم، والإيمان بأنهم خير القرون، وأن صفة أهل الضلالة بغض الصحابة أو الانتقاص منهم أو نسبة السوء إليهم، حيث إن الله هو الذي اختارهم أصحابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فلقد أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه».
وأخرج مسلم في «صحيحه» عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي العشاء، قال: فجلسنا فخرج علينا، فقال: «ما زلتم هاهنا»، قلنا: يا رسول اللَّه، صلينا معك المغرب، ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال: «أحسنتم، أو أصبتم»، قال: فرفع رأسه إلى السماء، وكان كثيرًا ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: «النجوم أمنة(1) للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون».
وأخرج البخاري ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
قـال: «إن خيـــركم قرني، ثـــم الذين يلونهم، ثم الذين يلـــونهم، ثم الذين يلونهم».
قال عمران: فلا أدري أقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد قرنه قرنين أو ثلاثًا، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن. والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا.
وفي هذه القرون الثلاثة أظهر الله سبحانه بقدره أقوال أهل البدع والضلال، حيث يتوفر أهل العلم الذين ردوا على أصحاب البدع بدعهم، ونصروا المنهج الحق الذي ورثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وشرحوا لمن لقيهم من التابعين السنة الصحيحة، فأراد الله بقدره ألا يتأخر ظهور البدع حتى ذهاب أهل العلم فيحتار الناس في ردها أو قبولها، فمن فضل الله تعالى ظهور هذه البدع في وفرة الصحابة وعلماء التابعين ؛ ليبقى ردهم علمًا يتبعه الناس وهو الذي سميّ: (منهج أهل السنة والجماعة).
هذه الكلمات القصيرة هامة، حتى لا تزيغ بنا الأهواء مع أقوال الضلال، وإن لَبَّسوا على الناس أن لهم أدلة على أقوالهم من القرآن أو من السنة، فإنها شبهات رد عليها الصحابة وأهل القرون الفاضلة بالعلم الذي ورثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلتنتبه أخَ الإسلام، ولا يغرنَّك أقوال الكُتَّاب يظنون بأقوالهم أنهم أصابوا المعقول ووافقوا المنقول، فاعلم أن شبهات فرق الضلال تتكرر في كل زمان، وجواب الصحابة وأهل القرون الفاضلة عليهم لا تزال هي منهج أهل السنة والجماعة، الذي من تركه وقع في حبائل الشيطان، وضل مع أهل الضلال. واللَّه يهدي من يشاء. والحمد للَّه رب العالمين.
وكتبه: محمد صفوت نور الدين