الثلاثاء 4 جمادى الآخرة 1447 25-11-2025

رئيس التحرير
مصطفي خليل أبو المعاطي

الثلاثاء 4 جمادى الآخرة 1447 25-11-2025

ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق

أحدث الأخبار

مقالات متنوعة

 

إعداد: مصطفى البصراتي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعدُ: ففي هذا العدد نتكلم عن مثل من الأمثال الموجودة في كتاب الله تعالى، وهو في سورة الفرقان الآية (33)- قال تعالى: «وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا» (الفرقان:33). المعنى الإجمالي: أخبر تعالى أن هؤلاء الكفرة لا يجيئون بمثل يضربونه على جهة المعارضة- مُبهم- كتمثيلهم في هذه بالتوراة والإنجيل- إلا جاء القرآن بالحق في ذلك أي بالذي هو حق، ثم هو أحسن تفسيرًا، أو أفصح بيانًا وتفصيلاً وأحسن مما جاءوا به من المثل بيانًا وتوضيحًا ليرد به كيدهم، ويقال معناه: ولا يأتونك بحجة إلا بينَّا لك في القرآن ما فيه نقض حجتهم، وأحسن تفسيرًا أي جوابًا لهم، ويقال: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بما هو أحسن من مثلهم، ويقال: كل نبي إذا قال له قومه قولاً كان هو الذي يرد عليهم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا قالوا له شيئًا، فالله تعالى هو الذي يرد عليهم. (انظر: المحرر الوجيز لابن عطية، وبحر العلوم لأبي الليث السمرقندي). معاني المفردات: «ولا يأتونك» (الإتيان) مستعمل مجازًا في الإظهار، والمعنى: لا يأتونك بشُبه يشبهون به حالاً من أحوالك يبتغون إظهار أن حالك لا يُشبه حال رسول الله إلا أبطلنا تشبيههم. «بمثل» المثل: المشابه وتنكير «مثل» في سياق النفي للتعميم أي بكل مثل، والمقصود: مثل من نوع ما تقدم من أمثالهم المتقدمة. «إلا جئناك بالحق» استثناء من أحوال عامة يقتضيها عموم الأمثال؛ لأن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال. «وأحسن تفسيرًا» التفسير: البيان والكشف عن المعنى، ومعنى كونه أحسن، أنه أحق في الاستدلال، فالتفضيل للمبالغة، فـ«أحسن تفسيرًا» أي: أحسن تفصيلاً. (انظر: الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن أبي طالب، والتحرير والتنوير لابن عاشور). التفسير التفصيلي: لما استقصى أكثر معاذيرهم وتعللاتهم وألقمهم أحجار الرد إلى لهواتهم عطف على ذلك فذلكة جامعة تعم ما تقدم وما عسى أن يأتوا به من الشكوك والتمويه بأن كل ذلك مدحوض بالحجة الواضحة الكاشفة لترهاتهم، والمقصود بالمثل هنا في قوله تعالى: «وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا» (الفرقان:33)، مثل من نوع ما تقدم من أمثالهم المتقدمة ابتداء من قوله: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ» (الفرقان:4)، «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ» (الفرقان:5)، بقرينة سوق هذه الجملة عقب استقصاء شبهتهم، «وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ» (الفرقان:7)، «وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا» (الفرقان:8)، «وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ» (الفرقان:21)، «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً» (الفرقان:32)، ودل على إرادة هذا المعنى من قوله: «بمثل» قوله آنفًا: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ» (الفرقان:9)، عقب قوله: «وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا» (الفرقان:8)، وتعدي فعل «يأتونك» إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم لإفادة أن إتيانهم بالأمثال يقصدون به أن يفحموه. (التحرير والتنوير، لابن عاشور بتصرف). وقال العلامة ابن عثيمين: المراد بالمثل هنا الصفة يعني لا يأتونك بصفة عن القول يريدون بها إبطال دعوتك إلا جئناك بالحق. إذن فهم يأتون بباطل، لأن قابل قولهم بالحق، فهذا دليل أيضًا على أن كل شبهة يحتج بها المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم فهي باطلٌ، ولكن هذا الباطل باطل في ذاته، قد يظهر لبعض الناس بطلانه، وقد يخفى على بعض الناس بطلانه، وهذا من الفتن، أي فتنة الشبهة، يعني ليس كل ما كان باطلاً معلومًا لكل أحد، ولهذا أنت أحيانًا وأنت شخص واحد ينجلي لك الأمر واضحًا في بعض الحالات ويلتبس عليك في بعض الحالات، حسب ما يكون قلبك صافيًا مطمئنًا أو غير ذلك، ومن ثم نُهي عن القضاء في حال الغضب، وعن الإفتاء في حال الغضب، وفي حال الحرِّ المزعج، والبرد المؤلم، وما أشبه ذلك؛ لأن الإنسان تَحْول هذه الأمور بينه وبين العلم بالحق أو إرادة الحق؛ لأن عند الغضب يشتبه عليك الحق، أو ربما لا تريد الحق بل تريد أن تنفذ غضبك فيمن غضبت عليه مثلاً. فالحاصل: أن كل شبهة يوردها الكفار في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وفيما بعده فهي باطلٌ، وما جاء أحدٌ بباطل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا جاء الله بالحق. (تفسير ابن عثيمين بتصرف). وقال الطبري: يقول تعالى ذكره: ولا يأتيك يا محمد هؤلاء المشركون بمثل يضربونه إلا جئناك من الحق بما نبطل به ما جاءوا، وأحسن منه تفسيرًا، وعنى بقوله: «وأحسن تفسيرًا»، وأحسن مما جاءوا به من المثل بيانًا وتفصيلاً. اهـ. وقال البغوي: وَلا يَأْتُونَكَ، يَا مُحَمَّدُ يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، بِمَثَلٍ، يَضْرِبُونَهُ فِي إِبْطَالِ أَمْرِكَ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ، يَعْنِي بِمَا تَرُدُّ بِهِ مَا جاؤوا به من المثل وتبطله (عليهم)، فسُمِّي ما يردون مِنَ الشُّبَهِ مَثَلًا، وَسُمِّي مَا يَدْفَعُ بِهِ الشُّبَهَ حَقًّا، وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً، يعني بيانًا وتفصيلاً، والتفسير: تَفْعِيلٌ مِنَ الْفَسْرِ وَهُوَ كَشْفُ مَا قَدْ غُطِّيَ. اهـ. تفسير البغوي (3/ 445). وقال ابن عطية في المحرر الوجيز: أخبر تعالى أن هؤلاء الكفرة لا يجيئون بمثل يضربونه على جهة المعارضة منهم كتمثيلهم في هذه بالتوراة والإنجيل- إلا جاء القرآن بالحق في ذلك أي بالذي هو حق، ثم هو أحسن تفسيرًا، أو أفصح بيانًا وتفصيلاً، ثم أوعد الله تعالى الكفار بما ينزل بهم يوم القيامة من الحشر على وجوههم إلى النار. اهـ. من فوائد الآية الكريمة: الفائدة الأولى: أن كل ذي باطل نجد جواب باطله من القرآن أو نقول ما هو أعم: نجد بيان باطله من الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم نأخذه من قوله: «وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا» (الفرقان:33)، فما من شبهة إلى يومنا هذا ترد إلا وفي كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ما يدحضها، ولكن كما هو معروف ليس كل أحد يدرك ذلك، فالسيف في يد إنسان لا يغني شيئًا ولا ينفعه كالعصا أو أقل، وفي يد إنسان هو سيف بتار يضرب به ويقتل به؛ هكذا أيضًا الوحيُ المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كل أحد يعلمه، ولا كل أحد يستطيع إقامة الحجة منه، ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ولهذا سُئل علي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: «لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة». قيل: وما في الصحيفة؟ قال: «العقلُ، وفكاكُ الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر». رواه البخاري. فالحاصل أن الله سبحانه وتعالى يؤتي فضله من يشاء بالنسبة لفهم القرآن، وكم من آية تمر بشخص يستنبط منها عدة مسائل، وآخر لا يستطيع أن يأتي بمسألة، فالناس يختلفون في فهم الكتاب والسنة واستنباط الأحكام من الكتاب والسنة، ولهذا تجد بعض الناس يأتي لك بالآية ويسوق فوائدها، ويمكن أن يُحصل خمس أو عشر فوائد حسب ما في الآية، وآخر يأتي بدلاً من الخمس بخمسين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. (تفسير ابن عثيمين بتصرف). الفائدة الثانية: التعبير في جانب ما يؤيده الله من الحُجة بـ«جئناك» دون: أتيناك كما عُبر عما يجيئون به بـ«يأتونك»: إما لمجرد التفنن، وإما لأن فعل الإتيان إذا استُعمل مجازًا كثر فيما يسوء وما يكره كالوعيد والهجاء وقول الملائكة للوط عليه السلام: «وأتيناك بالحق» أي عذاب قومه، ولذلك قالوا في المجيء الحقيقي: «بل جئناك بما كانوا فيه يمترون». وقال تعالى: «أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا» (يونس:24)، «أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ» (النحل:1). «فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا» (الحشر:2) بخلاف فعل المجيء إذا استُعمل في مجازه فأكثر ما يستعمل في وصول الخير والوعد بالنصر والشيء العظيم، قال تعالى: «قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ» (النساء:174)، «وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» (الفجر:22)، «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ» (النصر:1)، وفي حديث الإسراء: «..مرحبًا به، ونعم المجيء جاء، «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ» (الإسراء:81)، وقد يكون متعلق الفعل ذا وجهين باختلاف الاعتبار فيطلق كلا الفعلين نحو: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ» (هود:40)، فإن الأمر هنا منظور فيه إلى كونه تأييدًا نافعًا لنوح عليه السلام. الفائدة الثالثة: ومعنى كونه أحسن في قوله: «إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا» (الفرقان:33) أنه أحق في الاستدلال، فالتفضيل للمبالغة إذ ليس في حجتهم حُسن أو يراد بالحسن ما يبدو من بهرجة سفسطتهم من مغالطاتهم، فيكون التفضيل بهذا الوجه على حقيقته، فهذه نكتة من دقائق الاستعمال ودقائق التنزيل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أخبار متعلقة

اترك رد

من فضلك أدخل تعليقك!
يرجى إدخال اسمك هنا